يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ قَرِينُهُ) أي : الشيطان المقيض له ، أو : الملك الكاتب الشاهد عليه : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي : هذا ما عندى وفى ملكى عتيد لجهنم ، قد هيأته بإغوائى وإضلالى ، أو : هذا ديوان عمله عندى عتيد مهيأ للعرض ، ف «ما» موصولة ، إما بدل من «هذا» أو صفة ، و «عتيد» : خبر ، أو : خبر ، و «عتيد» : خبر آخر ، أو : موصوفة خبر «هذا» ، و «لدىّ» : صفته ، وكذا «عتيد» أي : هذا شىء ثابت لدىّ عتيد.
ثم يقول الله تعالى للسائق والشهيد : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) ، أو : لملكين من خزنة جهنم ، أو : يكون الخطاب لواحد ، وكان الأصل : ألق ألق ، فناب «ألقيا» عن التكرار ؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل ، فكان تثنية الفاعل نائبا عن تكرار الفعل ، أو : أصله : ألقين ، والألف بدل من نون التوكيد ، إجراء للموصول مجرى الوقف ، دليله : قراءة الحسن : (ألقين) (١) والأحسن : أن يراد جنس قرينه ، فيصدق بالسائق والشهيد ، فيقال لهما : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) بالنعم والمنعم (عَنِيدٍ) : مجانب للحق ، معاد لأهله ، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) ؛ كثير المنع للمال عن حقوقه ، أو : منّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله ، أو : يراد بالخير الإسلام ، لأن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة ، لمّا منع بنى أخيه من الإسلام. (مُعْتَدٍ) ؛ ظالم متخطّ للحق (مُرِيبٍ) : شاك فى الله تعالى وفى دينه.
(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : بدل من «كل كفّار» ولا يجوز أن يكون صفة ؛ لأن النكرة لا توصف بالموصول ، خلافا لابن عطية ، أو : مبتدأ مضمن معنى الشرط ، خبره : (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) ، وعلى الأول يكون «فألقياه» تكريرا للتوكيد ، أو مفعولا بمضمر ، يفسره «فألقياه» أي : ألق الذي جعل مع الله إلها آخر ألقياه. (قالَ قَرِينُهُ) أي : شيطانه الذي قرن به ، وهذا يؤيد أن المراد بالمتقدم جنس القرين ، وإنما أخليت هذه الجملة من الواو دون الأولى ؛ لأن الأولى واجب عطفها ؛ للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها فى الحصول ، أي : مجىء كلّ نفس مع ملكين ، وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهى مستأنفة ، كما تستأنف الجمل الواقعة فى حكاية التقاول ، كما فى مقاولة موسى وفرعون فى قوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ ...) إلى آخر الآيات (٢) ، فكأن الكافر قال : هو أطغانى ، فأجابه قرينه بتكذيبه فقال : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، أي : ما أوقعته فى الطغيان بالقهر ، ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى ، وهذا كقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ) (٣) ، فالوسوسة والتزيين حاصل منه ، والاختيار من الكافر ، والفعل لله ، لا يسأل عما يفعل.
(قالَ) تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي : فى موقف الحساب والجزاء ، إذ لا فائدة فى ذلك ، والجملة استئناف جواب عن سؤال ، كأن قائلا قال : فما ذا قال الله تعالى لهم؟ قال : لا تختصموا عندى (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
__________________
(١) بنون التوكيد الخفيفة ، نحو قوله : «لنسفعا». وانظر مختصر ابن خالويه / ص ١٤٥ والمحتسب (٢ / ٢٨٤) وإعراب شواذ القراآت للعكبرى (٢ / ٥٠٧) والقرطبى (٧ / ٦٣٧١).
(٢) الآيات : ٢٣ ـ ٣١ من سورة الشعراء.
(٣) الآية ٢٢ من سورة إبراهيم.