(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي : ما يتكلم به وما يرمى به من فيه (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) ؛ حافظ (عَتِيدٌ) ؛ حاضر لازم ، أو معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير والشر. وقال أبو أمامه عنه صلىاللهعليهوسلم : «كاتب الحسنات عن يمين الرجل وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يسبّح أو يستغفر» (١).
قال الحسن : إنّ الملكين يجتنبان العبد عند غائطه ، وعند جماعه ، ويكتبان عليه كل شىء ، حتى أنينه فى مرضه. وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر (٢). وعنه عليهالسلام : «ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا ، فيرى الله تعالى فى أول الصحيفة خيرا وفى أخرها خيرا ، إلا قال للملائكة : اشهدوا أنى قد غفرت لعبدى ما بين طرفى الصحيفة» (٣). والحفظه أربعة ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، فإذا مات العبد قاموا على قبره يكبران ويهللان ويكتب ذلك للعبد المؤمن.
ولمّا ذكر إنكارهم للبعث ، واحتج عليهم بعموم قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه هم لا قوة بعد الموت ، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي فقال : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ..) إلخ. وقال ابن عطية : هو عندى عطف على «إذ يتلقى» والتقدير : وإذ تجىء سكرة الموت ، يعنى فهو كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) الآية (٤) ه. وحاصل الآية حينئذ : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ظاهره وباطنه ، ونحن أقرب إليه فى جميع أحواله ، فى حياته ، ووقت مجىء سكرة الموت ، أي : شدته الذاهبة بالعقل ، ملتبسة (بِالْحَقِ) أي : بحقيقة الأمر ، وجلاء الحال ، من سعادة الميت أو شقاوته ، (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي : تنفر وتهرب وتميل عنه طبعا. والإشارة إلى الموت. والخطاب للإنسان فى قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) على طريقة الالتفات.
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي : وقت ذلك النفخ هو يوم الوعيد ، أي : يوم إنجاز الوعد ووقوع الوعيد. وتخصيص الوعيد بالذكر ؛ لتهويله ، ولذلك بدأ ببيان حال الكفرة بقوله : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس البرة والفاجرة (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد
__________________
(١) أخرجه البغوي فى التفسير (٧ / ٣٥٩) والبيهقي فى الشعب (الباب السابع والأربعون ، ح ٧٠٤٩) والطبراني فى الكبير (٨ / ٢٢٥ ، ح ٧٧٨٧) وأيضا (٨ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ح ٧٩٧١) وأبو نعيم فى الحلية (٦ / ١٢٤) من حديث أبى أمامة رضي الله عنه ، وقال الهيثمي فى المجمع (١٠ / ٢٠٨) : «رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال أحدها وثقوا».
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٦ / ١١٩) لابن المنذر.
(٣) ذكره القرطبي (٧ / ٦٣٦٦) عن أبى هريرة وأنس ـ رضى الله عنهما.
(٤) الآية ٨٥ من سورة الواقعة.