(قالَ) تعالى : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي : أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق ، أو : الحق قسمى (١) وأقول الحق : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) ؛ من جنسك ، وهم الشياطين ، (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) ؛ من ذرية آدم (أَجْمَعِينَ) أي : لأعمرنّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحدا.
الإشارة : التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات ، وصورته البديعة فاقت جميع الصور ، ولذلك لم يقل الحق تعالى فى شىء أنه خلقه فى أحسن تقويم إلا الآدمي ، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان ، واعتدل فيه الأمران ؛ الظلمة والنّور ، الحس والمعنى ، الروحانية والبشرية ، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، ولم يقله فى غيره ، أي : خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما فى باطنه من أسرار المعاني الإلهية ، والحكمة عبارة عما فى قالبه من عجائب التصوير ، وغرائب التركيب ، ولذلك كانت معرفته أتم ، وترقيه لا ينقطع ، إن كان من أهله ، وراجع ما تقدم فى قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٢).
وقال القشيري بعد كلام : فسبحان الله! خلق أعزّ خلقه من أذلّ شىء وأخسّه. ثم قال : ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره ، فيه ظهرت الخصوصية. ه.
ثم نزّه نبيه عن الطمع فى الأجر على التبليغ والتكلف ، فقال :
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ) على تبليغ ، الوحى أو على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) دنيوى ، حتى يثقل عليكم ، (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي : المتصنعين بما ليسوا من أهله ، وما عرفتمونى قط متصنعّا حتى أنتحل النّبوة ، أو أتقول القرآن ، وعنه صلىاللهعليهوسلم : «للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم» (٣).
__________________
(١) هذا المعنى على قراءة «فالحق» بالرفع ، وهى قراءة عاصم وحمزة. والمعنى الأول على قراءة «فالحق» بالنصب ، على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم ، فانتصب. و «لأملأن» جواب القسم ، وهى قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، والكسائي. انظر الإتحاف (٢ / ٤٢٥).
(٢) الآية ٧٠ من سورة الإسراء. (٣ / ٢١٦ ـ ٢١٨).
(٣) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (رقم ٣١٤) للثعلبى ، عن سلمة بن نفيل ، مرفوعا.