لمن وقع له فتور ، رحيم بمن وقع منه نهوض ، (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله) وشاهدوا أنواره وأسراره ، (ورسوله) حيث عرفوا حقيقته النّورانية الأولية ، (ثم لم يرتابوا) ؛ لم يخطر على بالهم خواطر سوء ، ولا شكوك فيما وعد الله من الرّزق وغيره ؛ لأنّ حجاب نفوسهم قد زال عنهم ، فصار الغيب شهادة ، والخبر عيانا ، والتعبير ب «ثم» يقتضى تأخر تربية اليقين شيئا فشيئا حتى يحصل التمكين فى مقامات اليقين ، مع التمكين فى مقام الشهود والعيان.
ثم ذكر سبب إزاحة الشكوك عنهم بقوله : (وجاهدوا بأموالهم) حيث بذلوها لله (وأنفسهم) حيث جاهدوها فى طلب الله (أولئك هم الصادقون) فى طلب الحق ، فظفروا بما أمّلوا ، وربحوا فيما به تجروا. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.
ثم ردّ على من منّ على الله بدينه ، فقال :
(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي : أتخبرونه بذلك بقولكم آمنّا؟ روى أنه لمّا نزل قوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) جاؤوا يحلفون إنهم لصادقون فأكذبهم الله بقوله : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ..) (١) إلخ. والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم ، كأنهم وصفوه تعالى بالجهل. قال الهروي : و «علّمت» و «أعلمت» فى اللغة بمعنى واحد ، وفى القاموس : وعلّمه العلم تعليما ، وأعلمه إياه فتعلمه. ه. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يحتاج إلى إعلام أحد ، وهو حال مؤكدة لتشنيعهم ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : مبالغ فى العلم بجميع الأشياء ، التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان.
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي : يعدون إسلامهم منّة عليك ، ف «أن» نصب على نزع الخافض ، والمنّ : ذكر النعمة على وجه الافتخار. وقال النّسفى : هو ذكر الأيادى تعريضا للشكر ، و [نهينا] (٢) عنه. ه. فانظره.
__________________
(١) انظر تفسير القرطبي (٧ / ٦٣٥٤).
(٢) فى الأصول : «ونهيا».