وزوال الرّيب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان ، تنبيها على علو مكانه ، وعطف على الإيمان بثمّ ؛ إشعارا باستقراره فى الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّا جديدا. (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : جاهدوا ما ينبغى جهاده من الكفار والأنفس والهوى ، بالإعانة بأموالهم ، والمباشرة بأنفسهم فى طلب رضا الله. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : الذين صدقوا فى قولهم : آمنا ، لم يكذّبوا كما كذّب أعراب بنى أسد ؛ بل إيمانهم إيمان صدق وحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة : مذهب الصوفية : أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يسمى مقام الإسلام ، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يسمى مقام الإيمان ، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يسمى مقام الإحسان ، وقد جعل الساحلى مقام الإسلام مركّبا من ثلاثة ؛ التوبة والتقوى والاستقامة ، والإيمان مركبا من الإخلاص والصدق والطمأنينة ، والإحسان مركّبا من المراقبة والمشاهدة والمعرفة ، ولكلّ زمان ورجال تربية واصطلاح فى السير ، والمقصد واحد ، وهو المعرفة العيانية.
قال القشيري : الإيمان هو حياة القلوب ، والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النّفوس ، والنّفوس لا تموت ، ولكنها تغيب. ه. أي : المقصود بقتل النّفوس ؛ هو الغيبة عنها فى نور التجلي ، فإذا وقع الفناء فى شهود الحق عن شهود الخلق فلا مجاهدة. وقال القشيري فى مختصره : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ...) إلخ ، يشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان ، بل هو نور يدخل القلوب ، إذا شرح الله صدر العبد للإسلام ؛ كما قال تعالى : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (١) ، وقال عليهالسلام فى صفة ذلك النّور : «إنّ النّور إذا وقع فى القلب انفسح له واتسع» ، قالوا : يا رسول الله ؛ هل لذلك النّور من علامة؟ قال : «بلى ؛ التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» (٢). لهذا قال تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : نور الإيمان. ه.
(وإن تطيعوا الله ورسوله) فى الأوامر والنّواهى بعد ذبح النّفوس بسيف الصدق (لا يلتكم عن أعمالكم شيئا) بل كل ما تتقربون به إلى الله من مجاهدة النّفوس ترون جزاءه عاجلا ، من كشف غطاء ، وحلاوة شهود ، إن الله غفور
__________________
(١) من الآية ٢٢ من سورة الزمر.
(٢) أخرجه الحاكم (٤ / ٣١١) والبيهقي فى الشعب (ح ١٠٥٥٢) وابن أبى شيبة فى مصنفه (الزهد ، باب ٦ ، ح ١٤) والبغوي فى التفسير (٧ / ١١٤ ـ ١١٥) وابن جرير (٨ / ٢٧) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، «والحديث سكت عند الحاكم ، وتعقبه الذهبي» ورواه البيهقي فى الأسماء (ص ١٥٦) وقال : «هذا منقطع» وابن المبارك فى الزهد (رقم ٣١٥ ، ص ١٠٦) عن أبى جعفر المدائني ، مرسلا ، ورواه بنحوه الحكيم الترمذي فى النّوادر (الأصل السادس والثمانين) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقد ذكر ابن كثير (٢ / ١٧٦) لهذا الحديث طرقا كثيرة ، متصلة ومرسلة ، ومال إلى تقويته لتعدد طرقه.