(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي : لا تعدوا إسلامكم منة علىّ ، فإنّ نفعه قاصر عليكم إن صح ، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) أي : المنة إنما هى لله عليكم (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي : لأن هداكم ، أو : بأن هداكم للإيمان على زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى ادّعاء الإيمان ، إلّا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف ؛ لدلالة ما قبله عليه ؛ أي : إن كنتم صادقين فى ادعائكم الإيمان فلله المنّة عليكم.
وفى سياق النّظم الكريم من اللطف ما لا يخفى ؛ فإنهم لمّا سموا ما فى صدورهم إيمانا ، ومنّوا به ، نفى تعالى كونه إيمانا ، وسمّاه إسلاما ، كأنه قيل : يمنون عليك بما هو فى الحقيقة إسلام وليس بإيمان ، بل لو صح ادّعاؤهم للإيمان فلله المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم.
(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فى سركم وعلانيتكم ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين فى دعواهم ، يعنى : الله تعالى يعلم كلّ مستتر فى العالم ، ويبصر كل عمل تعملونه فى سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شىء ، فكيف يخفى عليه ما فى ضمائركم. قال الورتجبي : ليس لله غيب ، إذ الغيب شىء مستور ، وجميع الغيوب عيان لله ـ تعالى ـ وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يبصر ببصره القديم ما كان وما لم يكن ، وهناك العلم والبصر واحد. ه. قوله : «العلم والبصر واحد» هذا على مذهب الصوفية فى أن بصره يتعلق بالمعدوم ، كما يتعلق به العلم ، ومذهب علماء الكلام : أن متعلق البصر خاص بالموجودات ، فمتعلق العلم أوسع. وانظر حاشية الفاسى على الصغرى.
الإشارة : كل من تمنى أن يعلم النّاس ما عنده من العلم والسر ؛ يقال له : أتعلّمون الله بدينكم ، والله يعلم ما فى سموات القلوب والأرواح من السر واليقين ، وما فى أرض النّفوس من عدم القناعة بعلم الله ، والله بكلّ شىء عليم.
وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم النّاس بخصوصيتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك» (١). وكلّ من غلب عليه الجهل حتى منّ على شيخه بصحبته له ، أو بما أعطاه ، يقال فى حقه : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ..) الآية. وقوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال القشيري : فمن لاحظ شيئا من أعماله وأحواله ؛ فإن رآها من نفسه كان شركا ، وإن رآها لنفسه كان مكرا ، وإن رآها من ربه بربه كان توحيدا. وفقنا الله لذلك بمنّه وجوده. ه.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
__________________
(١) حكمة رقم ١٦١ انظر تبويب الحكم للمتقى الهندي (ص ١١).