السير ، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة ، كذلك حكم الحكيم العليم ، فإن قالوا : حسدتمونا ، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه ، فقد دلّ ذلك على جهلهم ، وعدم فهمهم ، قل للمخلفين على السير ، بالبقاء مع حظوظهم : ستدعون إلى مجاهدة قوم أولى بأس شديد ، وهو النّفس ، بتحميلها ما يثقل عليها ، كالذل ، والفقر ، والهوى بمخالفته ، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر ، والنّاس بالفرار منهم جملة ، إلا من يدلّ على الله ، تقاتلوهم ، أو يسلمون ، بأن ينقادوا لكم ، ويصيروا طوع أيديكم ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وهو لذة الشهوة ، ورؤية الملك الودود ، عاجلا وآجلا ، وإن تتولوا كما توليتم فى زمان البطالة ، وبقيتم مع هوى نفوسكم ، يعذّبكم عذابا أليما ، بغم الحجاب وسوء العقاب.
قال القشيري : قوله تعالى : (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ، ثم تتغير للصلاح ، وأنشدوا :
إذا فسد الإنسان بعد صلاحه |
|
فرجّ له بعد الفساد صلاحا (١) |
قلت : وجه الاستدلال : أن طاعتهم كانت بعد التخلف والعصيان ، فقبلت منهم.
ثم استثنى أهل الأعذار الصحيحة ، فقال :
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))
يقول الحق جل جلاله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) فى التخلف عن الغزو (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ) الذي لا يقدر على الحرب (حَرَجٌ) لأن الجهاد منوط بالاستطاعة ونفى الحرج ، وهؤلاء أعذارهم ظاهرة صحيحة ، فلا حرج عليهم فى التخلف. وفى التصريح بنفي الحرج مع كلّ طائفة مزيد اعتناء بأمرهم ، وتوسيع لدائرة الرّخصة. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما ذكر من الأوامر والنّواهى ، (يُدْخِلْهُ) (٢) (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَمَنْ يَتَوَلَ) ؛ يعرض عن الطاعة (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) لا يقادر قدره. وقرأ نافع والشامي ؛ بنون العظمة ، والباقي بياء الغيبة.
__________________
(١) فى القشيري [فرجّ له عود الصلاح لعلّه].
(٢) أثبت المفسر ـ رحمهالله ـ قراءة «ندخله» و «نعذبه» بنون العظمة ، وهى قراءة نافع ، وابن عامر ، وأبى جعفر ، وقرأ الباقون «يدخله» و «يعذبه» بالياء. انظر الإتحاف (٢ / ٤٨٢).