ما يكرهون» (١). وعن الشعبي أنه قال : نزلت سورة الفتح بالحديبية ، وأصاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى تلك الغزوة ما لم يصب فى غزوة ، حيث بويع بيعة الرّضوان ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبلغ الهدى محلّه ، وبشروا بخيبر ، وظهرت الرّوم على فارس ، ففرح به المسلمون ، وكان فى فتح الحديبية آية عظيمة ، وهى أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم مجّه فيها ، فدرّت بالماء ، حتى شرب جميع من كان معه (٢) ، وقيل : جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد (٣). وقيل : هو جميع ما فتح له صلىاللهعليهوسلم ، من الإسلام ، والدعوة ، والنّبوة ، والحجة ، والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كافة ؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شعبه ، وفرع من فروعه. وقيل : الفتح : بمعنى القضاء ، والمعنى : قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل ، وأيّا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل ، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه ، لا خصوصية المفتوح. قاله أبو السعود.
(فَتْحاً مُبِيناً) ؛ ظاهر الأمر ، مكشوف الحال ، فارقا بين الحق والباطل. وقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه صلىاللهعليهوسلم فى إعلاء كلمة الله ، بمكابدة مشاق الحروب ، واقتحام موارد الخطوب ، أي : جعلنا الفتح على يديك ، وبسبب سعيك ، ليكون سببا لغفران الله لك (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى ، وما سيقع ، وتسميته ذنبا بالنظر إلى منصبه الجليل ، وتقدم قريبا تحقيقه (٤). وقول الجلال (٥) : «اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب» ، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية ، فإنه عليه تعالى محال ، وإنما يريد صورة التعليل ، الذي هو حكمة الشيء ، وفائدته العائدة على خلقه ، فضلا وإحسانا ، فالحكم والمصالح غاية لأفعاله تعالى ، ومنافع راجعة إلى المخلوقات ، وليس شىء منها غرضا وعلة غائية لفعله ، بحيث يكون سببا لإقدامه على الفعل ، وعلة غائية للفعل ؛ لغناه تعالى ، وكماله فى ذاته عن الاستكمال
__________________
(١) ذكره السيوطي مطولا فى الدر (٦ / ٥٨) وعزاه للبيهقى.
(٢) أخرج البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح ٤١٥٠) عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان ، يوم الحديبية ، كنا مع النّبى صلىاللهعليهوسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النّبى صلىاللهعليهوسلم ، فأتانا ، فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضا ، ثم مضمض ودعا ، ثم صبّه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا».
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «أصدرتنا» أي : رجعتنا ، يعنى : أنهم رجعوا عنها وقد رووا.
(٣) على هامش النّسخة الأم ما يلى : قلت : هذه القصة تكررت منه صلىاللهعليهوسلم فى عدة مرات ، وفى مواطن متعددة ، فلا خصوصية للحديبية بذلك. ه.
(٤) عند الآية ١٩ من سورة «محمد» صلىاللهعليهوسلم.
(٥) أي : جلال الدين المحلى فى تفسير الجلالين (٥١١). وقد فسر المحلى من أول سورة الكهف الى آخر سورة النّاس.