(وَاللهُ الْغَنِيُ) عن كلّ ما سواه ، ويفتقر إليه كلّ ما عداه ، (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي : إنه ـ تعالى ـ لا يأمر بذلك لحاجته إليه ؛ لأنه الغنىّ عن الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي : وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته ، وطاعة رسوله ، والإنفاق فى سبيله (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) ، يخلف قوما خيرا منكم وأطوع ، (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فى الطاعة ، بل أطوع ، راغبين فيما يقرب إلى الله ورسوله ، وهم فارس ، وسئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن هؤلاء القوم ـ وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : «هذا وقومه ، والذي نفسى بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس» (١).
قلت : صدق الصادق المصدوق ، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء ، وأكابر الأولياء ، كالجنيد ، إمام الصوفية ، والغزالي ، حبر هذه الأمة ، وأضرابهما. وقيل : الملائكة ، وقيل : الأنصار ، وقيل : كندة ، وقيل : الروم ، والأول أشهر.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول ، أو خليفته ، وهو الداعي إلى الله على بصيرة العيان ، ولا تبطلوا أعمالكم ، برجوعكم عن السير ، بترك المجاهدة قبل المشاهدة. إنّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية ، وصدوا النّاس عنها ، ثم ماتوا على ذلك ، لن يستر الله مساوئهم ، ولا يغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن الله. فلا تهنوا : لا تضعفوا ، أيها المترفهون ، عن مجاهدة نفوسكم ، فينقطع سيركم ، وذلك بالرجوع إلى الدنيا ، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم ، وأنتم الأعلون ، قد أشرفتم على الظفر بها ، والله معكم ؛ لقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) ، ولن ينقصكم شيئا من أعمالكم ، بل يريكم ثمرتها ، عاجلا وآجلا ، ولا يفترنّكم عن المجاهدة طول الأمل.
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ؛ أي : ساعة من نهار ، وإن تؤمنوا بكلّ ما وعد الله ، وتتقوا كلّ ما يشغل عن الله ، يؤتكم أجوركم عاجلا وآجلا ، ولا يسألكم الداعي إليه جميع أموالكم ، إنما يسألكم ما يخف عليكم ، تقدموه بين يدى نجواكم ، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم ، ويخرج أضغانكم ، وهذا فى حق عامة المريدين ، وأما الخاصة الأقوياء ، فلو سئلوا أرواحهم لبذلوها ، واستحقروها فى جنب ما نالوا من الخصوصية ، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشىء منها ، ويقال لعامة الطالبين للوصول : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ ...) الآية.
__________________
(١) أخرجه الترمذي فى (التفسير ـ سورة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ح ٣٢٦٠ ، ٣٢٦١) وقال «هذا حديث غريب» والحاكم (٢ / ٤٥٨) «وصححه ، وسكت عنه الذهبي». والطبري فى (٢٦ / ٦٦ ـ ٦٧) وعبد الرّزاق فى المصنف (١١ / ٦٦) والبغوي فى التفسير (٧ / ٢٩٢) وفى شرح السنة (١٤ / ٢٠٠) عن أبى هريرة رضي الله عنه وزاد السيوطي فى الدر (٦ / ٥٥) عزوه لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، والطبراني فى الأوسط ، (ح ٨٨٣٨) والبيهقي فى الدلائل (٦ / ٣٣٤).
(٢) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.