إعطاء السلم ، (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : الأغلبون ، (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالنصر والمعونة ، ومن كان غالبا ومنصورا والله معه ، لا يتصور منه إظهار الذلة والضراعة لعدوه ، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ؛ لن يضيعها ، من : وترت الرّجل : إذا قتلت له قتيلا ، من ولد أو أخ أو حميم ، فأفردته منه ، حتى صار وترا ، عبّر عن ترك الإثابة فى مقابلة العمل بالوتر ، الذي هو إضاعة شىء معتد به من الأنفس والأموال ، مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنّة ، إبرازا لغاية اللطف ، بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق ، وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها ، سبحانه من رب رحيم!.
(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا ثبات لها ، ولا اعتداد بها ، فلا تؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت فى الجهاد الأصغر أو الأكبر ، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي : ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات ، التي فيها يتنافس المتنافسون ، (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) بحيث يخل أداؤها بمعايشكم ، وإنما سألكم نزرا يسيرا ؛ هو ربع العشر ، تؤدونه إلى فقرائكم.
(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي : جميع أموالكم (فَيُحْفِكُمْ) أي : يجهدكم بطلب الكل ، فالإحفاء والإلحاف : المبالغة فى السؤال ، وبلوغ الغاية ، يقال : أحفاه فى المسألة : إذا لم يترك شيئا من الإلحاح ، وأحفى شاربه : استأصله ، أي : إن يسألكم جميعها (تَبْخَلُوا) فلا تعطوا شيئا ، (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي : أحقادكم ؛ لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب ، وضمير «لا يسألكم» وما بعدها لله أو لرسوله. وضمير «يخرج» لله تعالى ، ويؤيده القراءة بنون العظمة (١) ، أو البخل ؛ لأنه سبب الأضغان.
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي : يا هؤلاء ، وقيل : (ها) : للتنبيه ، و (هؤلاء) : موصول بمعنى «الذين» ، وصلته : (تُدْعَوْنَ) أي : أنتم الذين تدعون (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هى النّفقة فى الغزو والزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي : فمنكم ناس يبخلون به ، (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالصدقة وأداء الفريضة (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) فإنّ كلّا من نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه ، وفى حديث الترمذي : «السخي قريب من الله ، قريب من الجنة ، قريب من النّاس ، بعيد من النّار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنة ، بعيد من النّاس ، قريب من النّار ، ولجاهل سخى أحبّ إلى الله من عابد بخيل» (٢) وفى رواية : «من عالم بخيل» والبخل يتعدى ب «عن» ، و «على» ، لتضمنه معنى : الإمساك والتعدي.
__________________
(١) وبها قرأ يعقوب الحضرمي ، انظر البحر المحيط (٨ / ٨٥).
(٢) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة ، باب ما جاء فى السخاء ، ح ١٩٦١) والبغوي فى التفسير (٢ / ١٠٤ ـ ١٠٥) والطبراني فى الأوسط (ح ٢٣٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال الترمذي : «هذا حديث غريب».