بحق اليقين. ويقال : قال صلىاللهعليهوسلم : «أنا أعملكم بالله وأخشاكم له» فنزلت الآية (١) ، أي : أمر بالتواضع. وهنا سؤال : كيف قال : «فاعلم» ولم يقل صلىاللهعليهوسلم بعد : علمت ، كما قال إبراهيم حين قال له : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ) (٢) ويجاب : بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) (٣) والإيمان هو العلم ، فإخبار الحق ـ تعالى ـ عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله : علمته.
ويقال : إبراهيم عليهالسلام لما قال : (أَسْلَمْتُ) ؛ ابتلى ، ونبينا صلىاللهعليهوسلم لم يقل علمت ، فعوفى ، ويقال : فرق بن موسى ، لمّا احتاج إلى زيادة العلم أحيل على الخضر ، ونبينا صلىاللهعليهوسلم قال له : (قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٤) فكم بين من أحيل فى استزاده العلم على عبد ، وبين من أمر باستزادة العلم من الحق. ويقال : إنما أمره بقوله : (فَاعْلَمْ) بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق ، ثم بالانقطاع منه إليه ، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة ، والغفلة عن الحقيقة ، [وهى نصف البيان] (٥) ؛ فليس لهذا القول كبير قيمة ، وهذا إذا تعجب من شىء فذكر هذه الكلمة ، فليس له قدر ، وإذا قاله مخلصا ذاكرا لمعناها ، متحققا بحقيقتها ، فإن قاله بنفسه فهو فى وطن التفرقة ، وعندهم هذا من الشّرك الخفىّ ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص ، والعبد أولا يعلم ربه بدليل وحجة ، فعلمه بنفسه ضرورى ، وهو أصل الأصول ، وعليه ينبنى كلّ علم استدلالى ، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان ، وزيادة الحجج ، ويتناقض علمه بنفسه لغلبة ذكر الله بقلبه عليه ، فإذا انتهى لحال المشاهدة ، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه ، صار علمه فى تلك الحالة ضروريا ، ويقل إحساسه بنفسه ، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال ، وكأنه غافل عن نفسه ، أو ناس لنفسه ، ويقال : الذي فى البحر غلب عليه ما يأخذه من الرّؤية عن ذكر نفسه ، فإذا ركب البحر فرّ من هذه الحالة ، فإذا غرق فى البحر فلا إحساس له بشىء سوى ما هو مستغرق فيه مستهلك. ه.
قلت : لا مدخل للحجج هنا ، وإنما هو أذواق وكشوفات ، فالصواب أن يقول : ثم تزداد قوة علمه ، بزيادة الكشف والذوق ، حتى يغيب عن وجوده ، بشهود معبوده ، فيتناقض علمه ، فيصير علمه بالله ضروريا ، وعلمه بعدم وجوده ضروريا ، والله تعالى أعلم.
__________________
(١) نزول الآية فى هذا لم أقف عليه ، أما الحديث فصحيح ، فقد ترجم البخاري فى صحيحه (كتاب الإيمان ، باب قول النّبى صلىاللهعليهوسلم «أنا أعلمكم بالله» ح ٢٠) وأورد حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون ، قالا : إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله ، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فيغضب صلىاللهعليهوسلم ، حتى يعرف الغضب فى وجهه ، ثم يقول : «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا». وأخرج البخاري أيضا فى (الأدب ، باب من لم يواجه النّاس بالعتاب ح ٦١٠١) عن السيدة عائشة ـ رضى عنها ـ قالت : صنع رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا ، فترخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النّبى صلىاللهعليهوسلم ، فخطب فحمد الله ، ثم قال : «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فالله إنى لأعلمهم بالله عزوجل ، وأشدهم له خشية».
(٢) من الآية ١٣١ من سورة البقرة.
(٣) من الآية ٢٨٥ سورة البقرة.
(٤) من الآية ١١٤ من سورة طه.
(٥) فى القشيري : [أي كان بصفة النّسيان] وهو أنسب.