الربوبية محال عادة ، قال صلىاللهعليهوسلم مع جلالة منصبه : «لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ف كل ما قرب العبد من الحضرة شدد عليه فى طلب الأدب ، فإذا أخذته سنة أمر بالاستغفار ، ولذلك كان صلىاللهعليهوسلم يستغفر فى المجلس سبعين مرة ، أو مائة ، على ما فى الأثر (٢).
وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى ، بعد كلام : والحق أن استغفاره صلىاللهعليهوسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع ، لا طلب العفو بعد الوقوع ، وقد أخبره تعالى بأنه فعل. وقد يقال : استغفار تعبد لا غير. قال : والذي يظهر لى أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له ؛ إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة ، لا مع الوعد ، وذلك حقيقة ، والوقوف مع الوعد شريعة. وقال الطيبي : إذا تيقنت أن الساعة آتية ، وقد جاء أشراطها ، فخذ بالأهم فالأهم ، والأولى فالأولى ، فتمسك بالتوحيد ، ونزّه الله عما لا ينبغى ، ثم طهّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك ، من ترك الأولى ، فإذا صرت كاملا فى نفسك فكن مكملا لغيرك ، فاستغفر (لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). ه. أي : استغفر لذنوبهم ، بالدعاء لهم ، وترغيبهم فيما يستدعى غفران ذنوبهم.
وفى إعادة الجار تنبيه على اختلاف متعلّقيه ؛ إذ ليس موجب استغفاره صلىاللهعليهوسلم كموجب استغفارهم ، فسيئاته ـ عليهالسلام ـ فرضا ـ حسناتهم. وفى حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ـ أي : ولذنب المؤمنين ـ إشعار بعراقتهم فى الذنوب ، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار.
(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي : يعلم متقلبكم فى الدنيا ، فإنها مراحل لا بد من قطعها ، ويعلم مثواكم فى العقبى ؛ فإنها مواطن إقامتكم ، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما ، فبادروا إلى الامتثال لما أمركم به ، فإنه المهم لكم ، أو : يعلم متقلبكم : فى معايشكم ومتاجركم ، ومثواكم : حيث تستقرون فى منازلكم ، أو متقلبكم : فى حياتكم ، ومثواكم : فى القبور ، أو : متقلبكم : فى أعمالكم الحسنة أو السيئة ، ومثواكم : من الجنة أو النّار ، أو : يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شىء منها ، فمثله حقيق بأن يخشى ويتقى ويستغفر.
الإشارة : قال القشيري : قال تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وكان عالما ، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته ، وذلك فى الثاني من حاله فى ابتداء العلم ، لأن العلم أمر ، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد ، ف كل لحظة يأتى فيها علم. ويقال : كان له علم اليقين ، فأمر بعين اليقين ، أو : كان له عين اليقين ، فأمر
__________________
(١) بعض حديث صحيح ، أخرجه مسلم فى (الصلاة ، باب ما يقال فى الرّكوع والسجود ح ٤٨٦) من حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها.
(٢) أخرج مسلم فى (الذكر والدعاء والتوبة ، باب الاستغفار واستحباب الاستغفار والاستكثار منه ح ٢٧٠٢) عن الأغر المزني ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه ليغان على قلبى وإنى لأستغفر الله فى كلّ يوم مائة مرة».