الإشارة : مجلس الوعظ والتذكير ، إن كان المذكّر من أهل التنوير ، نهض المستمع له إلى الله قطعا ، لكن ذلك يتفاوت على قدر سريان النّور فيه قطعا ، فمنهم من يصل النّور إلى ظاهر قلبه ، ومنهم من يصل إلى داخل القلب ، ومنهم من يصل إلى روحه ، ومنهم من يصل إلى سره ، وذلك على قدر التفرع والاستعداد ، فمن وصل النّور إلى ظاهر قلبه نهض إلى العمل الظاهر ، وكان بين حب الدنيا والآخرة ، ومن وصل إلى قلبه نهض بقلبه إلى الله ، ورفض الدنيا وراءه ، ومن وصل إلى روحه انكشف عنه الحجاب ، ومن وصل إلى سره تمكن من شهود الحق.
وفى الحكم : «تسبق أنوار الحكماء أقوالهم ، فحيثما سار التنوير وصل التعبير» (١) ، وهذا إن حضر مستفيدا ، وأما إن حضر منتقدا ، فهو قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ..) الآية ، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هدى ، فلا يزالون يزيدون تربية وترقية إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود. قال القشيري : والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هدى لأنوار المشاهدات ، واهتدوا بتأمل البرهان ، فزادهم هدى بروح البيان ، أو اهتدوا بعلم اليقين ، فزادهم هدى بحق اليقين. ه.
ثم ذكر سبب الهداية وأساسها ، فقال :
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))
يقول الحق جل جلاله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : إذا علمت أن مدار السعادة ، والفوز بالنعيم فى دار البقاء هو التوحيد والطاعة ، ومناط الشقاء والخسران فى دار الهوان هو الإشراك والعصيان ، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ، واعلم أنه لا إله فى الوجود إلا الله ، فلا يستحق العبادة غيره ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو ما قد يصدر منه صلىاللهعليهوسلم من خلاف الأولى ، عبّر عنه بالذنب نظرا إلى منصبه الجليل ، كيف لا ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين؟ ف كل مقام له آداب ، فإذا أخلّ بشىء من آدابه أمر بالاستغفار ، فلمقام الرّسالة آداب ، ولمقام الولاية آداب ، ولمقام الصلاح آداب ، وضعف العبودية لا يقوم بجميع حقوق الرّبوبية ، قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢). وبالجملة ، فالقيام بالآداب مع الله ـ تعالى ـ على ما يستحقه ـ سبحانه ـ حتى يحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة
__________________
(١) حكمة (رقم ١٨٢) انظر تبويب الحكم للمتقى الهندي (ص ٣٦).
(٢) من الآية ٦٧ من سورة الزمر.