وَرَبِّنا) إنه لحق ، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون فى الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما فى الدنيا ، وأنّى لهم ذلك؟ (قالَ) تعالى لهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بها فى الدنيا ، ومعنى الأمر : الإهانة بهم والتوبيخ لهم ، نعوذ بالله من موارد الهوان.
الإشارة : تربية اليقين تطلب فى أمرين ، حتى يكونا كرأى العين : وجود الحق أو شهوده ، وإتيان الساعة وقربها ، حتى تكون نصب العين ، وتقدم حديث حارثة شاهدا على إيمانه ، حيث قال : «وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ...» الحديث.
ثم أمر بالصبر على ما يسمع من الكفرة ، فى إمكان البعث وغيره ، فقال :
(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))
قلت : (لَهُمْ) : متعلق بتستعجل ، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف ، لا يليق بإعجاز التنزيل ، خلافا لوقف الهبطى ، و (بَلاغٌ) : خبر عن مضمر ، أي : هذا بلاغ.
يقول الحق جل جلاله : (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما يصيبك من جهة الكفرة (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي : الثبات والحزم (مِنَ الرُّسُلِ) ، فإنك من جملتهم ، بل من أكملهم وأفضلهم ، و «من» للتبعيض ، واختلف فى تعيينهم ، فقيل : هم المذكرون فى الأحزاب (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (١) وهم أهل الشرائع ، الذي اجتهدوا فى تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمل مشاقها ، وسياسة من تمسك بها ، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل : هم الصابرون على بلاء الله تعالى ، كنوح صبر على إذاية قومه ، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وذبح ولده ، ومفارقة وطنه ، وترك ولده ببلد خالية من العمران ، ويعقوب على فقد ولده ، وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى قال له قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢) وعلى مكابدة التيه مع قومه ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
__________________
(١) الآية ٧ من سورة الأحزاب.
(٢) الآيتان ٦١ ، ٦٢ من سورة الشعراء.