قريش تقترح على رسول الله صلىاللهعليهوسلم آيات تظهر لهم ، ويسألونه عن الغيبيات ، عنادا ومكابرة ، فأمر صلىاللهعليهوسلم بأن يقول لهم : ما كنت بدعا من الرّسل ، قادرا على ما لم يقدروا عليه ، حتى آتيكم بكلّ ما تقترحونه ، وأخبركم بكلّ ما تسألون عنه من الغيوب ، فإنّ من قبلى من الرّسل ـ عليهمالسلام ـ ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله ـ تعالى ـ من الآيات ، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم ، (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي : لا أدرى ما يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى ، وما ذا يبرز لنا من قضاياه. وعن الحسن : ما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم فى الدنيا. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما يفعل بي ولا بكم فى الآخرة.
وقال : إنه منسوخ بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ). (١) قال شيخ شيوخنا الفاسى : وهو بعيد ، ولا يصح النّسخ ؛ لأنه لا يكون فى الأخبار ، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن فى الجنة ، والكافر فى النّار ، من أول ما بعثه الله ، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة ، فقال : لا أدرى ، وأما من وافى على الإيمان ، فقد أعلم بنجاته من أول الرّسالة ، وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدرى له عاقبة؟ قاله ابن عطية. ه. وقال أبو السعود : والأوفق بما ذكر من سبب النّزول : أن «ما» عبارة عما علمه ليس من وظائف النبوة ، من الحوادث الواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع فى الآخرة ، فإنّ العلم بذلك من وظائف النّبوة ، وقد ورد به الوحى ، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين. هذا ، وقد روى عن الكلبي : «أن أصحاب النّبى صلىاللهعليهوسلم قالو له صلىاللهعليهوسلم وقد ضجروا من إذاية المشركين : متى نكون على هذا؟ فقال : (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أأترك بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر ، قد رفعت إلىّ ورأيتها. ه. (٢). وسيأتى فى الإشارة تحقيق المسألة ـ إن شاء الله تعالى.
ثم قال : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي : ما أفعل إلا الاتباع ، على معنى : قصر أفعاله صلىاللهعليهوسلم على اتباع الوحى ، لا قصر اتباعه على الوحى ، كما هو المتبادر ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب ، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من إذاية المشركين ، والأول هو الأوفق بقوله : (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أنذركم عقاب الله ـ تعالى ـ حسبما يوحى إلىّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة.
__________________
(١) الآية الثانية من سورة الفتح.
(٢) ذكر الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٣٩٥) عن الكلبي ، عن أبى صالح ، عن سيدنا ابن عباس : لمّا اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رأى فى المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصّها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله! متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ).
ومعلوم أن الكلبي لم يسمع من أبى صالح ، وأبا صالح لم يسمع ابن عباس رضي الله عنه.