فإن كان تبّعا المتقدم ؛ فنسبة الفعل إلى الدهر مجاز ، كما سيأتى ، وعقيدة الموحدين ألّا فاعل إلا الله ، فالدهر مسخّر بأمر الله وقدرته ، بل هو من أسرار الله وأنوار صفاته ، ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «لا تسبّوا الدهر ، فإن الله هو الدهر» (١) وقال صلىاللهعليهوسلم : «قال الله تعالى : يؤذينى ابن آدم ، يسبّ الدّهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنّهار» (٢) فالأمور كلها بيد الله ، والدهر إنما هو مظهر لعجائب القدرة ، كما قال أبو على الثقفي رضي الله عنه :
يا عاتب الدهر إذا نابه (٣) |
|
لا تلم الدهر على غدره |
الدهر مأمور له آمر |
|
قد انتهى الدهر إلى أمره |
كم كافر أمواله جمّة |
|
تزاد أضعافا على كفره؟ |
ومؤمن ليس له درهم |
|
يزداد إيمانا على فقره؟ |
وقد ينسب أهل التوحيد الفعل إلى الدهر مجازا ، تغزلا ، فى أشعارهم ، كما قال عبد الملك بن مروان ، حين ضعف حاله :
فاستأثر الدهر الغداة بهم |
|
والدهر يرمينى وما أرمى |
يا دهر قد أكثرت فجعتنا |
|
بسراتنا وقرت فى العظم |
وتركتنا لحمّا على وضم (٤) |
|
لو كنت تستبقى من اللحم!! |
وسلبتنا ما لست تعقبنا |
|
يا دهر ما أنصفت فى الحكم!!. |
قال تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي : ليس لهم بما ذكر من اقتصار الحياة على ما فى الدنيا ، وإسناد التأثير إلى الدهر ، (من علم) يستند إلى عقل ولا نقل ، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ؛ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد ، هذا معتقدهم الفاسد فى أنفسهم.
__________________
(١) أخرجه مسلم فى (الألفاظ من الأدب ، باب النّهى عن سب الدهر ، رقم ٢٢٤٦ ، ح ٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. قال الخطابي : معناه أنا صاحب الدهر ، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها. انظر فتح الباري (٨ / ٤٣٨).
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ـ تفسير سورة الجاثية ، باب (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ح ٦٢٨٤) وفى (الأدب ، باب لا تسبوا الدهر) ومسلم فى (الموضع السابق ، ح ٢) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) فى الأصول : [يا عالما بعجب من دهره] والمثبت من تفسير القرطبي.
(٤) الوضم : خشبة الجزار يقطع عليها اللحم ، وكلّ ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير. يجمع على أوضام وأوضمة.
وتركهم لحما على وضم ، أي أوقع بهم فذلّلهم وأوجعهم. انظر اللسان (وضم ٦ / ٤٨٦١).