(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) فى الدنيا بإرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهته ـ تعالى ، مقرر لجواب مالك ، ومبين لسبب مكثهم ، وقيل : الضمير فى (قال) لله تعالى ، أي : لقد أعذرنا إليكم بإرسال الرّسل بالحق (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِ) أىّ حق كان (كارِهُونَ) لا تسمعونه وتفرون منه ؛ لأن مع الباطل الدّعة ، ومع الحق التعب ، هذا فى مطلق الحق ، وأما فى الحق المعهود ، الذي هو التوحيد والقرآن ، فكلهم كارهون مشمئزون منه.
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) : مبتدأ ، ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، و «أم» منقطعة ، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من توبيخ أهل النّار إلى حكاية جناية هؤلاء ، أي : أم أحكم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا حقيقة ، كما أبرموا كيدهم صورة ، كقوله تعالى : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (١) الآية. وكانوا يتناجون فى أنديتهم ، ويتشاورون فى أمره صلىاللهعليهوسلم.
(أَمْ يَحْسَبُونَ) ؛ بل يحسبون (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) وهو ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم فى مكان خال ، (وَنَجْواهُمْ) أي : ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي ، (بَلى) نحن نسمعها ونطّلع عليها (وَرُسُلُنا) ؛ الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم ، ويلازمونهم أينما كانوا (لَدَيْهِمْ) أي : عندهم (يَكْتُبُونَ) كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال ، ومن جملتها : ما ذكر من سرهم ونجواهم ، والجملة : إما عطف على ما يترجم عنه «بلى» ، أي : نكتبها ورسلنا كذلك ، أو حال ، أي : نسمعها والحال أن رسلنا يكتبونه.
الإشارة : قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ...) إلخ .. أما أهل الشرك فقد اتفق المسلمون على خلودهم ، إلا ما انفرد به ابن العربي الحاتمي والجيلي ، فقد نقلا خبرا مأثورا : أن النّار تخرب ، وينبت موضعها الجرجير ، وينتقل زبانيتها إلى خزنة الجنان ، فهذا من جهة الكرم وشمول الرّحمة لا يمنع ، ومن جهة ظواهر النّصوص معارض ، وباطن المشيئة مما اختص الله تعالى به. ونقل الجيلي أيضا فى كتابه (الإنسان الكامل) : أن بعض أهل النار أفضل عند الله من بعض أهل الجنة يتجلى لهم الحق تعالى فى دار الشقاء. ونقل أيضا : أن بعض أهل النّار تعرض عليهم الجنة فيأنفون منها ، وأن بعض أهل النّار يتلذذون بها كصاحب الجرب. وذكر بعضهم أن أهل النّار يتطبعون بها ، كالسمندل ، فهذه مقالات غريبة ، الله أعلم بصحتها. وعلى تقدير وقوعها فى غيب مشيئته تعالى ، فلعلها فى قوم مخصوصين من المسلمين ختم لهم بالشقاء بعد مقاسات شدائد الطاعة ، أو : فى قوم من أهل الفترة لم يكن فيهم
__________________
(١) من الآية ٤٢ من سورة الطور.