لأنزل على أحد هؤلاء ، بناء على ما زعموا من أن الرّسالة منصب جليل ، لا يليق له إلا من له جلالة من جهة المال والجاه ، ولم يدروا أنها رتبة روحانية ، لا يترقى إليها إلا همم الخواص ، المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيّدين بالقوة القدسية ، المتحلين بالفضائل الإنسية ، وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية ، المتمتعون بالحظوظ الدنية ، فهم من استحقاق تلك الرّتبة بألف معزل.
قال ابن عطية : وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن ، وإلا فرسول الله صلىاللهعليهوسلم كان أعظم هؤلاء ؛ إذ كان المسمى عندهم الأمين. ه. ومرادهم : الشرف الدنيوي ، بحيث يتعرض للأمور ؛ ليذكر ويشار إليه ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم كان منزها عن ذلك من أول النّشأة ، كما هو حال أهل الآخرة ، والنّفوس فى مهماتها إليهم أميل ، وعليهم تعول ، ولذلك كان أمينا عندهم ، ولا ترضى جل النّفوس أهل الفضول ؛ لأماناتها ، ولا تسكن إليها وتطمئن بها ، وإنما تعظمها ظاهرا ، لا حقيقة. وهذا كاف فى الرّد عليهم فى أنهم لا يرضونهم لأماناتهم ، فكيف يرضون لأمانات الوحى. (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (١). قاله فى الحاشية.
وقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ، إنكار عليهم ، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم فى اختيار من يصلح للنبوة. والمراد بالرحمة : النبوة.
(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) ؛ ما يعيشون به ، وهو أرزاقهم الحسية (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : لم نجعل قسمة الأدون إليهم ، وهو رزق الأشباح ، فكيف بالنبوة ، والعلم ، الذي هو رزق الأرواح؟ (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي : جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالى ، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء ، (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي : ليصرف بعضهم بعضا فى حوائجهم ، ويستخدموهم فى مهماتهم ، ويسخروهم فى أشغالهم ، حتى يتعايشوا ، ويصلوا إلى أعمالهم ، هذا بماله ، وهذا ببدنه ، ولو استووا فى الغنى والفقر لبطل جل المصالح ، فسبحان المدبر الحكيم.
قال القشيري : لو كانت المقادير متساوية لتعطلت المعايش ، ولبقى كلّ عند حاله ، فجعل بعضهم مخصوصا بالترفه والمال ، وآخرين بالفقر ورقة الحال ، حتى احتاج الفقير فى حين حاجته أن يعمل للغنىّ ، ليترفق من جهته بأجرته ، فيصلح بذلك أمر الفقير والغنىّ معا. ه. ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. وإذا كانوا فى تدبير خويصة أمرهم ، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية ، فى غاية العجز ، فما ظنهم فى تدبير أمر الدين والنّبوة؟!.
__________________
(١) من الآية ١٢٤ من سورة الأنعام.