يقول الحق جل جلاله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أي : واذكر وقت قوله عليهالسلام (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) المنكّبين على التقليد ، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : (إِنَّنِي بَراءٌ) أي : برىء (مِمَّا تَعْبُدُونَ) ، وتمسك بالبرهان. وذكر قصته ليسلكوا مسلكه فى الاستدلال ، أو : ليقلدوه ، إن لم يكن لهم بد من التقليد ؛ فإنه أشرف آبائهم. «وبراء» : مصدر ، يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث ، كرجل عدل ، وامرأة عدل ، وقوم عدل. و «ما» : إما مصدرية ، أو : موصولة ، أي : برىء من عبادتكم ومن معبودكم (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ؛ استثناء متصل ، أو : منقطع ، على أن «ما» تعم أولى العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام ، أو : صفة ، على أن «ما» موصوفة ، أي : إننى براء من آلهة تعبدونها غير الذي (فَطَرَنِي) ؛ خلقنى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ؛ يثبتنى على الهداية ، أو : سيهدين إلى ما وراء الذي هدانى إليه الآن. والأوجه : أن السين للتأكيد دون التسويف ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.
(وَجَعَلَها) أي : وجعل إبراهيم عليهالسلام كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهى قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ، (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي : فى ذريته ، حيث وصّاهم بها ، كما نطق به قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ...) (١) ، فلا يزال فيهم من يوحّد الله تعالى ، ويدعوهم إلى توحيده. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : جعلها باقية فى ذريته رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحّد.
(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) ، إضراب عن محذوف ، ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : جعلها كلمة باقية فى عقبه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم ، فلم يحصل ما رجاه ، بل متعت هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. (وَآباءَهُمْ) بالمد فى العمر ، والنّعمة ، والمهلة ، فاغتّروا بالمهلة ، وانهمكوا فى الشهوات ، وشغلوا بها عن كلمة التوحيد ، (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) ؛ القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ؛ ظاهر الرّسالة ، واضحها بالمعجزات الباهرة ، أو : مبين التوحيد بالآيات والحجج القاطعة.
وفى الآية توبيخ لهم ؛ فإن التمتع بزيادة النّعم يوجب أن يجعلوه سببا لزيادة الشكر ، والثبات على التوحيد والإيمان ، فجعلوه سببا لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال.
وحاصل معنى الآية : أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية فى عقب إبراهيم عليهالسلام ليدعو الموحّد المشرك ، نسلا بعد نسل ، فيرجع المشرك عن شركه ، فلم يرجعوا ، بل اغتروا بما متّعوا به ، فاستمروا على الشرك حتى جاءهم
__________________
(١) من الآية ١٣٢ من سورة البقرة.