وقال ابن عباس : فى الآفاق : منازل الأمم الخالية وآثارهم ، وفى أنفسهم : يوم بدر. وقال مجاهد وغيره : فى الآفاق : ما يفتح الله من القرى على نبيه صلىاللهعليهوسلم والمسلمين ، وفى أنفسهم : فتح مكة. وقيل : الآفاق : فى أقطار السموات والأرض ، من الشمس ، والقمر ، والنّجوم ، وما يترتب عليها من الليل ، والنّهار ، والأضواء ، والظلال ، والظلمات ، ومن النبات ، والأشجار ، والأنهار ، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، من تكوين النّطفة فى ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ...) (١).
وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك ، بمعنى أن الله ـ تعالى ـ سيطلعهم على تلك الآيات زمانا فزمانا ، ويزيدهم وقوفا على حقائقها يوما فيوما ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) بذلك (أَنَّهُ الْحَقُ) أي : القرآن ، أو : الإسلام ، أو : التوحيد ، (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، توبيخ على ترددهم فى شأن القرآن ، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات ، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى. والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : ألم يغن ولم يكف ربك. والباء : مزيدة للتأكيد ، ولا تكاد تزاد إلا مع «كفى».
و (أنه ...) إلخ : بدل منه ، أي : ألم يغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم فى ذلك أنه تعالى ـ شهيد على كلّ شىء ، وقد أخبر أنه من عنده. وقيل : معناه : إن هذا الموعود من إظهار آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب ؛ الذي هو على كلّ شىء شهيد.
(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) ؛ شك عظيم (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فلذلك أنكروا القرآن ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ؛ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها ، وظواهرها ، وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم ، لا محالة.
الإشارة : قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال فى مقام الإيمان ، وعلى مقام العيان فى مقام الإحسان ، أي : سنريهم آياتنا الدالة على وجودنا فى الآفاق ، وفى أنفسهم ، أي : فى العوالم المنفصلة والمتصلة ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أي : وجوده حق ، لأن الصنعة قطعا تحتاج إلى صانع ، ثم رقّاهم إلى مقام المراقبة بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ) أي : أهل الجهل بالله ، (فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فى الدنيا ، بحصول الفناء ، فيفنى وجود العبد فى وجود الحق ، ألا إنه بكلّ شىء محيط ، فبحر العظمة أحاط بكلّ شىء ، وأفنى كلّ شىء ، ولم يبق مع وجوده شىء.
__________________
(١) من الآية ٢١ من سورة الذاريات. وانظر تفسير البغوي (٧ / ١٧٩) وابن كثير (٤ / ١٠٥).