(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي : ما استغفر منه. قال القشيري : ولمّا أوحى الله بالمغفرة ، قال : يا رب كيف بحديث الخصم؟ ـ أي : الرجل الذي ظلمته ـ فقال : قد استوهبتك منه. ه. وفى رواية : إنى أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ، فاستوهبك منه فيهبك لى ، قال : يا رب الآن قد عرفت أنك غفرت لى (١). ه. قال تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ؛ لقربى وكرامة بعد المغفرة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) ؛ مرجع فى الجنة.
الإشارة : إنما عوتب داود عليهالسلام لأنه التفت إلى الجمال الحسى الفرقى ، دون الجمال المعنوي الجمعى ، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقى ، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي ، الذي هو جمال الحضرة القدسية ، وعبارة شيخ شيوخنا سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي الله عنه : عدّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصور إلى المقيد بهما ، وهى مقام تفرقة ، لا مقام جمع ، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعا ، عن شهود فعله فرقا ، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. ه. قال القشيري : قال داود عليهالسلام : يا رب إنى أجد فى التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرّتب العالية ، فأعطينها؟ فقال : إنهم صبروا لمّا ابتليتهم ، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه ، طمعا فى مثل تلك الرّتب ، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا ، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته ، وأغلق أبوابه ، ولم يمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن فى كف الطالب يتقلب. ثم إنه كان فى البيت كوة ، يدخل منها النّور ، فدخل منها طير صغير ، كأنه من ذهب ، وكان لداود ولد صغير ، فهمّ أن يقبضه لابنه ، فمازال يحاوله ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة ، فامتحن بها ، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل ، وفى ذلك لأولى الأبصار عبرة. ه.
وقال عند قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) : التجأ داود عليهالسلام فى أوائل البلاء إلى التوبة ، والبكاء ، والتضرع ، والاستكانة ، فوجد المغفرة والتجاوز. وهكذا من رجع فى أوائل الشدائد إلى الله ، فالله يكفيه ويتوب عليه ، و [كذلك] (٢) من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال : إن زلة قدّرها عليك ، توصلك إليه بندمك ، أحرى بك من طاعة ، إعجابك بها يقصيك عن ربك. ه. وفى الحكم : «معصية أورثت ذلا وافتقارا ، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه : كل سوء أدب يثمر لك حسن أدب ؛ فهو أدب. ه.
__________________
(١) انظر تفسير البغوي (٧ / ٨٤).
(٢) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.