فلما جاءتهم الرّسل بعلوم الديانة ، والتأهب ليوم القيامة ، وهى أبعد شىء من علمهم ؛ لبعثها على رفض الدنيا ، والتباعد عن تتبع ملاذها ، لم يلتفتوا إليها ، وصغّروها ، واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم ، ففرحوا به. أو : علم التنجيم والفلسفة ، والدهريّين ؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحى دفعوه ، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم ، واعتقدوا عندهم علما يستغنون به عن علم الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ولما سمع بقراط بموسى عليهالسلام قيل له : لو هاجرت إليه! فقال : نحن قوم مهذّبون ، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.
ورأى بعض الصالحين النّبىّ صلىاللهعليهوسلم فسأله عن ابن سيرين ، فقال له : «إنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة ، فانقطع عن الله» وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرّياضة على انكشاف حضرة القدس ، فلا يظفرون بالعبودية ، ولا بالفناء فى توحيد الرّبوبية ، والتخلص من لوث وجودهم ، والشأن أن تكون عين الاسم ، لا أن تعرف الاسم والعين ، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحى ، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة درة الوجود ، نبينا صلىاللهعليهوسلم ، ومظهر سر العيان الأحدى الأحمدى ، فافهم. قاله شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى.
قال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق ، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل. (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ؛ شدة عذابنا ، ومنه : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) (١) ، (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يعنون الأصنام.
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي : فلم يستقم ، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجىء العذاب ؛ لأن النّافع هو الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري ، (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي : سنّ الله ذلك سنّة ماضية فى عباده ، ألّا يقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة ، نحو : وعد الله ، ونحوه. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي : وقت رؤيتهم البأس. فهنالك : مكان استعير للزمان ، والكافرون خاسرون فى كل أوان ، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.
وفائدة ترادف الفاءات فى هذه الآيات : أن (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) نتيجة قوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) و (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) كالبيان والتفسير لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ، كقولك : رزق زيد المال ، فمنع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء. و (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) تابع لقوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) ، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [تابع لإيمانهم] (٢) لمّا رأوا بأس الله ، والله تعالى أعلم.
__________________
(١) من الآية ١٦٥ من سورة الأعراف.
(٢) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من تفسير النّسفى.