يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) مخاطبا قومه : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) فى تكذيب موسى ، والتعرض له بسوء ، (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي : مثل أيام الأمم الماضية المتحزبة على رسلها ، يعنى وقائعهم. وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جميع اليوم ، أي : بالإضافة ، وفسره بقوله :
(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ؛ كقوم لوط وشعيب ، لم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار ، فاقتصر على الواحد من الجمع. ودأب هؤلاء : دؤوبهم فى عملهم من الكفر ، والتكذيب ، وسائر المعاصي ، حتى دمّرهم الله. ولا بد من حذف مضاف ، أي : مثل جزاء دأبهم ـ وهو الهلاك. و (مثل) الثاني : عطف بيان لمثل الأولى. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ؛ فلا يعاقبهم بغير ذنب ، أو : يزيد على ما يستحقونه من العذاب ، يعنى أن تدميرهم كان عدلا ؛ لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) ؛ حيث جعل المنفي إرادة الظلم منّكرا ، وإذا بعد عن إرادة ظلم ما لعباده ؛ كان عن الظلم أبعد وأبعد. وتفسير المعتزلة : بأنه لا يريد لهم أن يظلموا ، بعيد ؛ لأن أهل اللغة قالوا : إذا قال الرّجل لآخر : لا أريد ظلما لك ، معناه : لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويف بعذاب الدنيا. ثم خوّفهم من عذاب الآخرة بقوله :
(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) أي : يوم القيامة ؛ لأنه ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة ، ويتصايحون بالويل والثبور ، وينادى أصحاب النّار أصحاب الجنة ، وأصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم ، وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النّار ندّوا هربا ، فلا يأتون قطرا من الأقطار ، إلا وجدوا ملائكة صفوفا ، فيرجعون إلى مكانهم ، فبينهما هم يموج بعضهم فى بعض ، إذ سمعوا مناديا : أقبلوا إلى الحساب. أو : ينادى مناد عند الميزان : ألا إن فلانا بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، ألا إن فلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدا. قال ابن عطية : المراد التذكير بكلّ نداء فى القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة ، وذلك كثير. ه.
ثم أبدل من يوم التناد : قوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي : منصرفين عن القوم إلى النّار ، أو : فارّين منها غير معاجزين ، (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من عذابه ، ولمّا أيس من قبولهم قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى طريق النّجاة.
الإشارة : ينبغى للواعظ والمذكّر إذا ذكّر العصاة أن يخوفهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما فعل مؤمن آل فرعون ، أما عذاب الدنيا فما يلحق العاصي من الذل والهوان عند الله ، وعند عباده ، وما يلحقه إن طال عمره من المسخ وأرذل العمر ، فإنّ المعاصي فى زمن الشباب تجر الوبال إلى زمن الهرم ، كما أن الطاعة فى حال الشباب
__________________
(١) من الآية ٤٦ من سورة فصلت.