ثم قال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) حال كونكم (ظاهِرِينَ) ؛ غالبين عالين على بنى إسرائيل (فِي الْأَرْضِ) ؛ أرض مصر ، لا يقاومكم أحد فى هذا الوقت ، (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) يعنى : إن لكم اليوم ملك مصر ، وقد علوتم النّاس ، وقهرتموهم ، فلا تسرفوا على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله ، أي : عذابه ؛ فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ، ولا يمنعكم منه أحد. وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور فى الأرض إليهم خاصة ، ونظم نفسه فيما يسوؤهم ، من مجىء بأس الله تعالى ، إمحاضا للنصح ، وإيذانا بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه.
(قالَ فِرْعَوْنُ) بعد ما سمع نصحه لقومه : (ما أُرِيكُمْ) أي : ما أشير عليكم (إِلَّا ما أَرى) وأستصوبه من قتل موسى ، يعنى : لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب ، (وَما أَهْدِيكُمْ) بهذا الرّأى (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي : الصواب ، ولا أعلنكم إلا ما أعلم ، ولا أسرّ عنكم شيئا خلاف ما أظهر ، يعنى : أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب اللعين ، فقد كان مضمرا للخوف الشديد من جهة موسى عليهالسلام ، ولكنه كان يتجلّد ، ولو لا استشعاره للخوف لم يستشر أحدا فى قتله ، وقد كان سفّاكا جبارا ، فما منعه إلا خوف الهلاك إن مدّ يده إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : قد نصح وأبلغ مؤمن آل فرعون ، واحتجّ عليهم ، فلم ينجع فيهم قوله ، وأعاد عليهم نصحه فلم يسمعوا ، وكان كما قيل :
وكم سقت فى آثاركم من نصيحة |
|
وقد يستفيد البغضة المستنصح (١) |
ثم قال تعالى :
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))
__________________
(١) البيت للعباس بن الفرج الرّياشى. انظر الكامل للمبرد (٢ / ٣٩٢) وفيه : وكم صغت فى آثاركم ...