كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))
يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ) ، قيل : كان قبطيا ، ابن عمّ لفرعون ، آمن بموسى سرّا ، وقيل : كان إسرائيليا موحّدا ، وهو المراد بقوله : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) (١) ، قال ابن عباس : اسمه حزقيل. وقال ابن إسحاق : جبرل ، وقيل : سمعان. وقيل : حبيب (٢). و (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) : صفة ثانية لرجل ، أو : صلة ليكتم ، أي : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) من فرعون وملائه : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أي : أتقصدون قتله كراهة (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) وحده ، من غير روية ولا تأمل فى أمره؟ وهذا إنكار منه عليهم ، كأنه قال : أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء ـ وهى قتل نفس محرمة ـ من غير حجة ، غير قوله الحق ، وإقراره بالتوحيد؟ (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : والحال أنه جاءكم بالمعجزات الظاهرة ، التي شاهدتموها وعاهدتموها من ربكم ، يعنى أنه لم يكتف ببينة واحدة ، بل جاء ببينات كثيرة (مِنْ) عند (رَبِّكُمْ) ، أضافه إليهم ، استنزالا لهم عن رتبة المكابرة ، واستدراجا للاعتراف.
ثم أخذهم بالاحتجاج فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ، لا يتخطى وبال كذبه إلى غيره ، فيحتاج فى دفعه إلى قتله ، (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) من العذاب ، احتج عليهم بطريق التقسيم ؛ لأنه لا يخلو ، إما أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن كان كاذبا فوبال كذبه عليه ، وإن كان صادقا يصبكم قطعا بعض ما يعدكم من العذاب ، ولم يقل : كل الذي يعدكم ، مع أنه وعد من نبىّ صادق ، مداراة لهم وسلوكا لطريق الإنصاف ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له ، فكأنه قال : إن لم يصبكم الجميع يصبكم البعض ، وليس فيه نفى لإصابة الكل ، فكأنه قال : أقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض ما يعدكم ، وهو العذاب العاجل ، وفى ذلك هلاككم ، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة. وتفسير البضع بالكل مزيّف. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ، هذا احتجاج آخر ذو وجهين ؛ أحدهما : أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى النّبوة ، ولما عضده بتلك البينات ، وثانيهما : إن كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة إلى قتله. وقيل : أوهم أنه يريد بالمسرف موسى ، وهو يعنى به فرعون ، ويحتمل أن يكون من كلام الله ـ تعالى ـ اعتراضا بين أجزاء وعظه ، إخبارا بما سبق لهم من الشقاء ، فلا ينفع فيهم الوعظ.
__________________
(١) من الآية ٢٠ من سورة يس.
(٢) انظر هذه الأقوال فى تفسير القرطبي (٧ / ٥٩٢١) والبغوي (٧ / ١٤٦).