ثم قال : (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أي : يغير ما أنتم عليه من الدين ، وهو عبادتهم له وللأصنام ؛ لتقربهم إليه ، (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي : ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية. والحاصل : أنه قال : أخاف أن يفسد عليكم دينكم ، بدعوته إلى دينه ، أو : يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من التقاتل والتهارج ، الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش.
(وَقالَ مُوسى) لمّا سمع ما أجراه من الحديث فى قتله لقومه : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) ، صدّر عليهالسلام كلامه بأنّ ؛ تأكيدا له ، وإظهارا لمزية الاعتناء بمضمونه ، وفرط الرّغبة. وخص اسم الرّب المنبئ عن الحفظ والتربية ؛ إذ بهما يقع الحفظ.
وفى قوله : (وَرَبِّكُمْ) حث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذته ، ويعتصموا بالتوكّل اعتصامه ، ولم يسمّ فرعون ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة ؛ لتعميم الاستعاذة ، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى ، وهو التكبر. قال ابن عرفة : أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأت بدليل ولا معجزة ، ولم يكن أيضا لخفاء تلك المعجزة ، وعدم ظهورها ، بل كان لجحود التعنت والتكبر ، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتّباع. ه. وقال : (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) ؛ لأنه إذا اجتمع فى الرّجل التجبر والتكذيب بالجزاء ، وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على الله وعباده ، والعياذ بالله.
الإشارة : قال القشيري : كان موسى عليهالسلام أكرم خلقه فى وقته ، وكان فرعون أخسّ خلقه فى وقته ؛ إذ لم يقل أحد : ما علمت لكم من إله غيرى ، فأرسل أخصّ عباده إلى أخسّ عباده. ثم إن فرعون سعى فى قتل موسى ، واستعان على ذلك بخيله ورجله ، ولكن كما قال تعالى : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ، وإذا حفر أحد لولىّ الله حفرة ، ما وقع فيها غير حافرها ، كذلك أجرى الحقّ سنّته. ه.
ثم ذكر موعظة مؤمن آل فرعون لقومه ، فقال :
(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ