وبعد تحكيم الخاصّ وتقديمه في الحجيّة بالنّسبة إلى ما يشمله واقعا يصير العامّ ، كأنّه كان مقصور الحجّيّة من أوّل الأمر وكأنّه لم يكن بعامّ ، وهذا بخلاف اللّبيّة ، فإنّ الملقى فيها حجّة واحدة وهو العامّ ، فيجب العمل به ما لم يكن حجة أقوى ، ففي قولنا : «أكرم جيراني» لا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه ، فالقطع بعدم إرادة إكرام العدوّ منهم ، لا يجب رفع اليد عن عمومه إلّا فيما قطع بخروجه ، وبعبارة اخرى ، القطع بعدم إرادة إكرامه لا يوجب انقطاع حجّيّته ، إلّا فيما قطع أنّه عدوّه ، لا فيما شكّ فيه.
وفيه : أنّه بعد الفراغ عن كون اللّبي ـ أيضا ـ حجّة ، لا يبقى المجال للفرق بين المخصّصات اللّفظيّة واللّبيّة ، فكما أنّ اللّفظي المنفصل يضيّق دائرة الحجيّة ، ويكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت حجيّة العامّ ، أو الخاصّ ، كذلك اللّبي بلا فرق ، فالعامّ حجّة والمخصّص اللّبي حجّة اخرى ، والمشتبه لا يعلم كونه مندرجا تحت إحدى هاتين الحجّتين ، وعليه ، فلا فرق بين أن يقول المولى ـ بعد قوله : «أكرم جيراني» ـ «لا تكرم أعدائي منهم» أو يحكم بذلك العقل.
ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدسسره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : بعد الإشارة إلى عدم الوجه للفرق بين اللّفظي واللّبي ، ما هذا لفظه : «ودعوى بناء العقلاء على التّمسّك بالعامّ في اللّبيّات عهدتها عليه». (١)
وأمّا القول الثّالث (عدم جواز التّمسّك بالعامّ مطلقا) فالوجه فيه ـ على ما عرفت آنفا ـ هو أنّ التّخصيص كما يوجب التّنويع إذا كان لفظيّا ، كذلك يوجبه إذا كان لبيّا ، فالعامّ في مثل : «أكرم جيراني» بعد تخصيصه بالأعداء منهم بحكم العقل ، يصير
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠.