ولا شك في أن الكفر أكبر السيئات ، فلو كانت كل كبيرة جزاؤها الخلود ، لكانت كلها كفرا ولكانت كلها سواء ، وليست كذلك بالنص.
وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره ، فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها ، لكنه قد قال تعالى (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية رقم ١٥ و ١٦] وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض ، وقد صح أن القاتل ليس كافرا ، وأن الزاني ليس كافرا ، وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفارا بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات ، وأنهم مأمورون بالصلوات ، وأن زكاة أموالهم مقبوضة ، وأنهم لا يقتلون ، وأنه إن عفي عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل به ، وأنه يرث ويورث ، وتؤكل ذبيحته ، فإذ ليس كافرا فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة ما ، وأن الصّليّ الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلّى الخلود ، ولا يجوز البتة غير هذا.
وبهذا تتآلف النصوص وتتفق. ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه مدة ما لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما ، فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه ، فمن دخل في النار ثم أخرج منها فقد انقضى عنه صلّاها ، فليس من أهلها ، وإنما أهلها وأهل صلّاها على الاطلاق ، والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبدا ، فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليهالسلام فيه من يدخل النار بذنوبه ، ثم يخرج منها ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «وأما أهل النار الذين هم أهلها» (١) يعني الكفار المخلدين فيها.
وقد قال عزوجل (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم آية رقم ٧١]. فقد بين عليهالسلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح : «ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم» (٢) فبالقرآن
__________________
(١) تمام الحديث : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال : بخطاياهم ـ فأماتهم إماتة ، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر فبثّوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل». رواه مسلم في الإيمان (حديث ٣٠٦) وابن ماجة في الزهد باب ٣٧ ، وأحمد في المسند (٣ / ٥).
(٢) رواه البخاري في الأذان باب ١٢٩ ، والتوحيد باب ٢٤. ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩. وابن ماجة في الزهد باب ٣٣. وأحمد في المسند (٢ / ٢٩٣ ، ٣ / ١١ ، ١٧).