والله تعالى قد نص على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه ، وأن ما لا نهاية له فلا يستوفى أبدا.
فقد ثبت بكل ما ذكرنا أن العالم ذو أول ، وإذا كان ذا أول فلا بدّ ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها ، وهي :
١ ـ إما أن يكون أحدث ذاته.
٢ ـ وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره ، وبغير أن يحدث هو نفسه.
٣ ـ وإما أن يكون أحدثه غيره.
فإن كان هو أحدث ذاته ، فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي :
١ ـ إمّا أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة.
٢ ـ أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة.
٣ ـ أو أحدثها وكلاهما موجود.
٤ ـ أو أحدثها وكلاهما معدوم.
وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها.
لأن الشيء ، وذاته هي هو ، وهو هي.
وكلّ ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته.
وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس.
فهذا وجه قد بطل.
ثم نقول : إن كل ما خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته ، أو يخرجه غيره. فهو أيضا محال ، لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ، ولا حال أصلا هناك.
فإذا لا سبيل إلى خروجه ، وخروجه مشاهد ممكن. فحال الخروج غير حال اللاخروج ، وحال الخروج هي علّة كونه. وهذا لازم في تلك الحال ، أعني أن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت نفسها ، أو أخرجها غيرها ، أو خرجت بغير هذين الوجهين ، وهكذا في كل حال. فإن تمادي الكلام يوجب ألا نهاية. ولا نهاية في العالم من مبدئه باطل ممتنع محال بما قدمنا.
فإذا قد بطل أن يخرج العالم بنفسه ، وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره ، فقد ثبت الوجه الثالث ضرورة ، إذ لم يبق غيره البتة فلا بدّ من صحته ، وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود وبالله تعالى التوفيق.