فهل أتى بعده نبي يبين هذا إلا «محمد» صلىاللهعليهوسلم؟ وهذا أمر لا يحيل بيانه على ذي حسّ سليم وإنصاف ، ونسأل الله إيزاع الشكر على ما وفق له من الهدى.
فإن قال قائل : فإن المجوس تصدّق بنبوة «زرادشت» ، وقوم من اليهود يصدقون بنبوة «أبي عيسى الأصبهاني» ، وقوم من كفرة الغالية يصدّقون بنبوة «بزيع الحائك» ، و «المغيرة بن أبي سعيد» ، و «بنان بن سمعان التميمي» وغيرهم من كلاب الغالية.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق : أن أبا عيسى ، وبنان ، وبزيعا وسائر من تدّعي له الغالية بنبوة أو إلهية من خيار الناس وشرارهم ، لم تظهر لواحد منهم آية بوجه من الوجوه. والآيات لا تصح إلّا بنقل الكواف ، وكل هؤلاء كان بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد أخبر الذي جاءت البراهين بصدقه صلىاللهعليهوسلم ـ أنه لا نبي بعده ، فقد صحّ البرهان ببطلان ما ادّعي لهؤلاء من النبوة. وأمّا «زرادشت» فقد قال كثير من المسلمين بنبوته.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن صحت عنه معجزة. قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤]. وقال عزوجل : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء : ١٦٤].
وقالوا : إن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم. وبرهان ذلك أن «المانية» تنسب إليه مقالتهم ، وأقوال هؤلاء كلهم متضادة لا سبيل إلى أن يقول بها قائل واحد صادق ولا كاذب في وقت واحد.
وكذا المسيح عليه المسيح عليهالسلام ينسب إليه «الملكانية» قولهم في التثليث ، وتنسب إليه «النسطورية» قولهم أيضا ، وكذلك «اليعقوبية». وتنسب إليه «المانية» أيضا قولهم ، وكذلك «المرقيونية». وهذا برهان ظاهر على كذب جميعهم عليهما بلا شك.
وقد رامت الغالية مثل هذا في القرآن ، ولكن قد تولّى الله حفظه ، وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلهما ، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما. وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كانا طول مدة دولتهم عند «الموبذ» (١) وعند ثلاثة وعشرين
__________________
(١) قال ابن الأثير في النهاية (٤ / ٣٦٩ ـ مادة موبذ) : «في حديث سطيح : فأرسل كسرى إلى الموبذان. الموبذان للمجوس : كقاضي القضاة للمسلمين ، والموبذ : كالقاضي».