بعد اخرى.
ألا ترى أنّ ما يضطرّ إليه الانسان بالذات منحصر في المأكل والملبس والمسكن ومنه حدثت الحاجة إلى الفلاحة والرعاية للمواشي والحياكة والبناء والاقتناص أي حيازة المباحات من الصيد والمعادن والحشائش والأحطاب التي هي الاصول لسائر الصناعات المنتشرة في العالم فاشتغل كلّ بها الا أهل البطالة حيث غفلوا عنه أو منعهم عنه مانع في أوان الصبا ، ثم استمرّوا عليها فاضطرّوا إلى الأخذ من الناس ، ومنه حدثت حرفتان أخبث من كلّ الحرف الكدية واللصوصية ولكلّ منهما أنواع.
واعلم أنّ الدنيا لقطعها الطريق إلى الله تعالى على عباده عدوّة له ، ولذا لم ينظر إليهامنذ خلقها كما في الأخبار. (١) ولأوليائه أيضاً ، فإنّ العدوّ يبغض أولياء عدوّه كما يبغض الولي أعداء وليّه ، ولكون الدنيا سجناً لهم ، حيث لم ترض لهم الا بالبلايا والمتاعب والرزايا والمصائب ، ولكونها حاجبة لهم عن الوصول إلى محبوبهم ماداموا فيها. ولأعدائه أيضاً حيث غرّتهم بمكائدها واقتنعتهم بشبابكها (٢) ، ثم حرمتهم عن السعادة الأبدية وخذلتهم بعد أن أسقطتهم في مهاويها المهلكة الرديّة ، ولذا ترى أكثر القرآن مشتملاً على ذمّها.
قال أمير المؤمنين عليهالسلام في وصفها : « ما أصف من دار أوّلها عناء وآخرها فناء ، في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن أبصر بها بصرّته ، ومن عمي عنها أعمته ». (٣)
وقال عليهالسلام : « لايغرّنكم الحياة الدنيا فإنّها دار بالبلاء محفوفة وبالفناء
__________________
١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٥٥.
٢ ـ كذا في النسخ ، والصحيح : شباكها.
٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨٢ ، وفيه : « واتته » بدل « أتته » و « من أبصر إليها أعمته » بدل « من عمي عنها أعمته ».