ذكر المحنة
في أثناء السنة كتب المأمون إلى نائبة على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعيّ ، ابن عمّ طاهر بن الحسين ، في امتحان العلماء ، كتابا يقول فيه : «وقد عرف أمير المؤمنين أنّ الجمهور الأعظم والسّواد الأكبر من حشو الرّعيّة ، وسفلة العامّة ، ممّن لا نظر له ولا رويّة ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه ، أهل جهالة بالله تعالى وعمى عنه ، وضلالة عن حقيقة دينه ، وقصور أن يقدروا الله حقّ قدره ، ويعرفوه كنه معرفته ، ويفرّقوا بينه وبين خلقه. وذلك أنّهم ساووا بين الله وبين خلقه ، وبين ما أنزل من القرآن. فأطبقوا على أنّه قديم لم يخلقه الله ويخترعه. وقد قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) فكلّ ما جعله الله فقد خلقه كما قال : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢) ؛ وقال : (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) (٣) فأخبر أنّه قصص لأمور أحدثه بعدها. وقال : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (٤) ، والله محكم كتابه ومفصّله ، فهو خالقه ومبتدعه. ثم انتسبوا إلى السّنّة ، وأنّهم أهل الحقّ والجماعة ، وأنّ من سواهم أهل الباطل والكفر. فاستطالوا بذلك وغرّوا به الجهّال ، حتّى مال قوم من أهل السّمت الكاذب والتّخشّع لغير الله إلى موافقتهم ، فنزعوا الحقّ إلى باطلهم ، واتّخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم».
إلى أن قال : «فرأى أمير المؤمنين أنّ أولئك شرّ الأمّة ، المنقوصون من التّوحيد حظا ، أوعية الجهل وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ؛ والهائل على أعدائه من أهل دين الله ، وأحقّ أن يتّهم في صدقه ، وتطرح شهادته ، ولا يوثق به ؛ ذلك أعمى وأضلّ سبيلا. ولعمرو أمير المؤمنين ، إنّ أكذب النّاس من كذب على الله ووحيه. وتخرّص الباطل ، ولم يعرف الله حقيقة معرفته. فاجمع من بحضرتك من القضاة ، فاقرأ عليهم كتابنا وامتحنهم فيما
__________________
(١) سورة الزخرف ، الآية ٣.
(٢) سورة الأنعام ، الآية ١.
(٣) سورة طه ، الآية ٩٩.
(٤) سورة هود ، الآية ٢.