قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) وهو القرآن بإجماع المفسّرين (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فيه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك فيعتبرون.
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))
قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) قال المفسّرون : أراد مشركي مكّة. ومكرهم السّيئات : شركهم وتكذيبهم ، وسمّي ذلك مكرا ، لأنّ المكر في اللغة : السّعي بالفساد ، وهذا استفهام إنكار ، ومعناه : ينبغي أن لا يأمنوا العقوبة ، وكان مجاهد يقول : عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان. قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : في أسفارهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. والثاني : في منامهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : في ليلهم ونهارهم ، قاله الضّحّاك وابن جريج ومقاتل. والرابع : أنه جميع ما يتقلّبون فيه ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فيه قولان : أحدهما : على تنقّص ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك. قال ابن قتيبة : التّخوّف : التّنقّص ، ومثله التّخوّن. يقال : تخوّفته الدّهور وتخوّنته : إذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عديّ : التّخوّف : التّنقّص ، بلغة أزد شنوءة. ثم في هذا التّنقّص ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تنقّص من أعمالهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أخذ واحد بعد واحد ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : تنقّص أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنه التّخوّف نفسه ، ثم فيه قولان : أحدهما : يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز ، قاله قتادة. والثاني : أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى ، قاله الضّحّاك. وقال الزّجّاج : يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها ، فعلى هذا خوّفهم قبل هلاكهم ، فلم يتوبوا ، فاستحقّوا العذاب.
قوله تعالى : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) إذ لم يعجّل بالعقوبة ، وأمهل للتّوبة.
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «أو لم يروا» بالياء وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «تروا» بالتاء ، واختلف عن عاصم. قوله تعالى : (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أراد من شيء له ظلّ ، من جبل ، أو شجر ، أو جسم قائم (يَتَفَيَّؤُا) قرأ الجماعة بالياء ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء (ظِلالُهُ) وهو جمع ظلّ ، وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد ، لأنه واحد يراد به الكثرة ، كقوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (١) قال ابن قتيبة : ومعنى يتفيّأ ظلاله : يدور ويرجع من جانب إلى جانب ، والفيء : الرّجوع ، ومنه قيل للظّلّ بالعشيّ : فيء ، لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق ، قال
__________________
(١) سورة الزخرف : ١٣.