فيقال : للآدميّ معاش ، ولا يقال : للفرس معاش ، جرت مجرى الناس ، كما قال : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (١) ، وقال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) ، وقال : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣) ، وإن قلنا : أريد به العبيد ، والوحوش ، فإنه إذا اجتمع الناس وغيرهم ، غلّب الناس على غيرهم ، لفضيلة العقل والتّمييز.
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))
قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) أي : وما من شيء (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) وهذا الكلام عامّ في كلّ شيء. وذهب قوم من المفسّرين إلى أنّ المراد به المطر خاصّة ، فالمعنى عندهم : وما من شيء من المطر إلّا عندنا خزائنه ، أي : في حكمنا وتدبيرنا ، (وَما نُنَزِّلُهُ) كلّ عام (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) لا يزيد ولا ينقص ، فما من عام أكثر مطرا من عام ، غير أنّ الله تعالى يصرفه إلى من يشاء ، ويمنعه من يشاء.
(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))
قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وقرأ حمزة ؛ وخلف : «الريح». وكان أبو عبيدة يذهب إلى أنّ «لواقح» بمعنى ملاقح ، فسقطت الميم منه ، قال الشاعر :
ليبك يزيد بائس لضراعة |
|
وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح (٤) |
أراد : المطاوح ، فحذف الميم ، فمعنى الآية عنده : وأرسلنا الرّياح ملقحة ، فيكون هاهنا فاعل بمعنى مفعل ، كما أتى فاعل بمعنى مفعول ، كقوله تعالى : (ماءٍ دافِقٍ) (٥) أي : مدفوق ، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٦) أي : مرضيّة ، وكقولهم : ليل نائم ، أي : منوم فيه ، ويقولون : أبقل النّبت ، فهو باقل ، أي : مبقل. قال ابن قتيبة : يريد أبو عبيدة أنها تلقح الشّجر ، وتلقح السّحاب كأنها تنتجه. ولست أدري ما اضطرّه إلى هذا التّفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمّي الرّياح لواقح ، والرّيح لاقحا ، قال الطّرمّاح ، وذكر بردا مدّه على أصحابه في الشمس يستظلّون به :
قلق لأفنان الرّيا |
|
ح للاقح منها وحائل (٧) |
فاللاقح : الجنوب ، والحائل : الشّمال ، ويسمّون الشّمال أيضا : عقيما ، والعقيم : التي لا تحمل ، كما سمّوا الجنوب لاقحا ، قال كثيّر :
ومرّ بسفساف التّراب عقيمها (٨)
__________________
(١) سورة النمل : ١٨.
(٢) سورة يوسف : ٤٠.
(٣) سورة الأنبياء : ٣٣.
(٤) البيت لنهشل بن حري ، انظر «كتاب سيبويه» ١ / ١٤٥ ، وفي «اللسان» مادة «طيح» وطوّحته الطوائح : قذفته القواذف ، وطوّح الشيء : ضيعه ، طاح طيحا : تاه ، وطيّح نفسه وطاح الشيء طيحا : فني وذهب ، وأطاحه هو : أفناه. قال ابن جني : أول البيت مبني على اطّراح ذكر الفاعل ، فإن آخره عوود فيه الحديث على الفاعل لأن تقديره فيما بعد ليبكه مختبط مما تطيح الطوائح ، فدل قوله : ليبك على ما أراد من قوله ليبك.
(٥) سورة الطارق : ٦.
(٦) سورة القارعة : ٧.
(٧) للبيت للطّرمّاح كما في «غريب القرآن» لابن قتيبة ٢٣٦.
(٨) في «اللسان» مادة «سفّ» ونسبه لكثير ، وعنده : «هاج» بدل «مرّ». والسفساف : ما دقّ من التراب.