إعدادات

في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم

زاد المسير في علم التفسير [ ج ٢ ]

زاد المسير في علم التفسير [ ج ٢ ]

429/595
*

(٨١٠) ويؤيده الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقول الله تعالى : إذا همّ عبدي بسيّئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيّئة». واحتجّ القاضي أبو يعلى على أنّ همّته لم تكن من جهة العزيمة ، وإنّما كانت من جهة دواعي الشّهوة بقوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) وقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) وكلّ ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية ، وعلى هذا تكون همّته مجرّد خاطر لم يخرج إلى العزم.

فإن قيل : فقد سوّى القرآن بين الهمّتين ، فلم فرّقتم؟

فالجواب : أنّ الاستواء وقع في بداية الهمّة ، ثم ترقّت همّتها إلى العزيمة ، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه ، ولم تتعدّ همّته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل معقودها. بدليل هربه منها ، وقوله : (قالَ مَعاذَ). ولا يصح ما يروى عن المفسّرين أنه حلّ السّراويل وقعد منها مقعد الرّجل ، فإنه لو كان هذا ، دلّ على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم على الزّنا.

والقول الثاني : أنها همّت به أن يفترشها ، وهمّ بها ، أي : تمنّاها أن تكون له زوجة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

والقول الثالث : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : ولقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها فلمّا رأى البرهان ، لم يقع منه الهمّ ، فقدّم جواب «لو لا» عليها ، كما يقال : قد كنت من الهالكين ، لو لا أنّ فلانا خلّصك لكنت من الهالكين ، ومنه قول الشاعر :

فلا يدعني قومي صريحا لحرّة

لئن كنت مقتولا وتسلم عامر

أراد : لئن كنت مقتولا وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي ، فقدّم الجواب. وإلى هذا القول ذهب قطرب ، وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب «لو لا» عليها شاذ مستكره ، لا يوجد في فصيح كلام العرب ، فأمّا البيت المستشهد به ، فمن اضطرار الشّعراء ، لأنّ الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير موضعها ، ويقدم ما حكمه التّأخير ، ويؤخّر ما حكمه التّقديم ، ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضّرورة ، قال الشاعر :

وجزى ربّه عنّي عديّ بن حاتم

بتركي وخذلاني جزاء موفّرا

تقديره : جزى عني عديّ بن حاتم ربّه ، فاضطرّ إلى تقديم الرّبّ ، وقال الآخر :

لمّا جفا إخوانه مصعبا

أدّى بذاك البيع صاعا بصاع

أراد : لمّا جفا مصعبا إخوانه ، وأنشد الفرّاء :

طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعد ما

تقطّعت بي دونك الأسباب

فزاد تاء على تاء «تقطّعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب :

إنّ شكلي وإنّ شكلك شتّى

فالزمي الخفض وانعمي تبيضّضي

فزاد ضادا لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق :

____________________________________

(٨١٠) صحيح. أخرجه البخاري ٧٥٠١ و ٦٤٩١ ، ومسلم ١٢٨ ، والترمذي ٣٠٧٣ ، وأحمد ٢ / ٢٤٢ ، وابن مندة ٣٧٥ ، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.