حدّثنا عن التّوراة فإنّها حسن ما فيها ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يعني : قصص القرآن أحسن ممّا في التّوراة.
قال الزّجّاج : والمعنى نحن نبيّن لك أحسن البيان ، والقاصّ : الذي يأتي بالقصّة على حقيقتها قال : وقوله تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي : بوحينا إليك هذا القرآن. قال العلماء : وإنّما سمّيت قصّة يوسف أحسن القصص ، لأنّها جمعت ذكر الأنبياء ، والصّالحين ، والملائكة ، والشّياطين ، والأنعام ، وسير الملوك ، والمماليك ، والتّجّار ، والعلماء ، والرّجال ، والنّساء ، وحيلهنّ ، وذكر التّوحيد ، والفقه ، والسّرّ ، وتعبير الرّؤيا ، والسّياسة ، والمعاشرة ، وتدبير المعاش ، والصّبر على الأذى ، والحلم ؛ والعزّ ، والحكم ، إلى غير ذلك من العجائب.
قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ) في «إن» قولان : أحدهما : أنها بمعنى «قد». والثاني : بمعنى «ما». قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) قال ابن عباس : من قبل نزول القرآن. (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته.
(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))
قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) في «إذ» قولان : أحدهما : أنها صلة للفعل المتقدّم ، والمعنى : نحن نقصّ عليك إذ قال يوسف. والثاني : أنها صلة لفعل مضمر ، تقديره : اذكر إذ قال يوسف ، ذكرهما الزّجّاج ، وابن الأنباري.
قوله تعالى : (يا أَبَتِ) قرأ أبو جعفر ، وابن عامر بفتح التاء ، ووقفا بالهاء ، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء ، وقرأ الباقون بكسر التاء. فمن فتح التاء ، أراد : يا أبتا ، فحذف الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة دالّة على الألف ، كما أنّ الكسرة تبقى دالّة على الياء. ومن وقف على الهاء ، فلأن تاء التّأنيث تبدل منها الهاء في الوقف. وقرأ أبو جعفر : «أحد عشر» ، و «تسعة عشر» ، بسكون العين فيهما. وفيما رآه يوسف قولان : أحدهما : أنه رأى الشمس والقمر والكواكب ، وهو قول الأكثرين. قال الفرّاء : وإنّما قال : «رأيتهم» على جمع ما يعقل ، لأنّ السجود فعل ما يعقل ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (١). قال المفسّرون : كانت الكواكب في التأويل إخوته ، والشّمس أمّه ، والقمر أباه ، فلمّا قصّها على يعقوب أشفق من حسد إخوته. وقال السّدّيّ : الشمس أبوه ، والقمر خالته ، لأنّ أمّه كانت قد ماتت. والثاني : أنه رأى أبويه وإخوته ساجدين له ، فكنّى عن ذكرهم ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، وقتادة. فأمّا تكرار قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ) فقال الزّجّاج : إنما كرّره لمّا طال الكلام توكيدا. وفي سنّ يوسف لمّا رأى هذا المنام ثلاثة أقوال : أحدها : سبع سنين. والثاني : اثنتا عشرة سنة. والثالث : سبع عشرة سنة.
قال المفسّرون : علم يعقوب أنّ إخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه ، فقال : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى
__________________
(١) سورة النحل : ١٨.