ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى ، فهو يعلمه رطبا ، ويعلمه يابسا.
وفي الكتاب المبين قولان : أحدهما : أنه اللوح المحفوظ ؛ قاله مقاتل. والثاني : أنه علم الله المتقن ؛ ذكره الزّجّاج.
فإن قيل : ما الفائدة في إحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة ، ذكرهنّ ابن الأنباريّ : أحدها : أنه أحصاها في كتاب ، لتقف الملائكة على نفاذ علمه. والثاني : أنه نبّه بذلك عباده على تعظيم الحساب ، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون ، لأنّ من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب ، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع. والثالث : أنّ المراد بالكتاب : العلم ؛ فالمعنى : أنها مثبتة في علمه.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) يريد به النّوم ، لأنه يقبض الأرواح عن التّصرّف ، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس : يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم : بمعنى كسبتم. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) أي : يوقظكم فيه ، أي : في النهار. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي : لتبلغوا الأجل المسمّى لانقطاع حياتكم ، فدلّ باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت.
(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١))
قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) الحفظة : الملائكة ، واحدهم : حافظ ، والجمع : حفظة ، مثل كاتب وكتبة ، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان : أحدهما : أعمال بني آدم ؛ قاله ابن عباس. والثاني : أعمالهم وأجسادهم ، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وقرأ حمزة : «توفّاه رسلنا» وحجّته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي ، وإنما التأنيث للجمع ، فهو مثل : (وَقالَ نِسْوَةٌ) (١). وفي المراد بالرّسل ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أعوان ملك الموت ، قاله ابن عباس. وقال النخعيّ : أعوانه يتوفّون النّفوس ، وهو يأخذها منهم. والثاني : أنّ المراد بالرّسل : ملك الموت وحده ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم الحفظة ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) قال ابن عباس : لا يضيّعون.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وبين قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٢)؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه يجوز أن يريد بالرّسل ملك كالموت وحده ، وقد يقع الجمع على الواحد. والثاني : أنّ أعوان ملك الموت يفعلون بأمره ، فأضيف الكلّ إلى فعله. وقيل : توفّي أعوان ملك الموت بالنّزع ، وتوفّي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب ، ويدعوها فتخرج ، وتوفّي الله تعالى بأن يخلق الموت في الميّت.
__________________
(١) سورة يوسف : ٣٠.
(٢) سورة السجدة : ١١.