وفي معنى الآية أربعة أقوال (١) : أحدها : فلا تعجبك أحوالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنّما يريد الله ليعذّبهم بها في الآخرة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسّدّيّ وابن قتيبة. فعلى هذا في الآية تقديم وتأخير ، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها. والثاني : أنّها على نظمها ، والمعنى : ليعذّبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، فهي لهم عذاب ، وللمؤمنين أجر ، قاله ابن زيد. والثالث : أنّ المعنى : ليعذّبهم بأخذ الزّكاة من أموالهم والنّفقة في سبيل الله ، قاله الحسن. فعلى هذا ترجع الكناية إلى الأموال وحدها. والرابع : ليعذّبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم ، ذكره الماوردي. فعلى هذا تكون في المشركين.
قوله تعالى : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي : تخرج ، يقال : زهق السّهم : إذا جاوز الهدف.
(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))
قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي : مؤمنون ، و (يَفْرَقُونَ) بمعنى يخافون. فأمّا الملجأ ، فقال الزّجّاج : الملجأ واللّجأ مقصور مهموز ، وهو المكان الذي يتحصّن فيه. والمغارات : جمع مغارة ، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان ، أي : يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : «أو مغارات» بضمّ الميم ؛ لأنه يقال : أغرت وغرت : إذا دخلت الغور. وأصل مدّخل : مدتخل ، ولكنّ التاء تبدل بعد الدال دالا ، لأنّ التاء مهموسة ، والدّال مجهورة ، والتاء والدال من مكان واحد ، فكان الكلام من وجه واحد أخفّ. وقرأ أبيّ ، وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء : «أو متدخّلا» برفع الميم ، وبتاء ودال مفتوحتين ، مشدّدة الخاء. وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : «مندخلا» بنون بعد الميم المضمومة. وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، ويعقوب : «مدخلا» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. قال الزّجّاج : من قال : «مدخلا» فهو من دخل يدخل مدخلا ؛ ومن قال : «مدخلا» فهو من أدخلته مدخلا ، قال الشاعر :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا |
|
بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا (٢) |
ومعنى مدّخل : أنهم لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم (لَوَلَّوْا) إليه ، أي : إلى أحد هذه الأشياء (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي : يسرعون إسراعا لا يردّ فيه وجوههم شيء. يقال : جمح وطمح : إذا أسرع ولم يردّ وجهه شيء ؛ ومنه قيل : فرس جموح للذي إذا حمل لم يردّه اللجام.
__________________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٣٩١ : وأولى التأويلين. في ذلك عندنا. التأويل الذي ذكرنا عن الحسن ، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل ، فصرف تأويله إلى ما دل عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته. وإنما وجّه من وجّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر ، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا ، وجها يوجهه إليه ، وقال : كيف يعذبهم بذلك في الدنيا وهي لهم فيها سرور؟ ذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه ، إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس ، ولا راج من الله جزاء ، ولا من الأخذ منه حمدا ولا شكرا. على ضجر منه وكره. ا. ه.
(٢) البيت لأمية بن أبي الصلت في «اللسان» ما.