(٦٥٩) وروي عن ابن عمر قال : لمّا أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول الله أنزل الله تعالى «ما كان لنبي» إلى قوله «حلالا طيبا» ، فلقي النبيّ صلىاللهعليهوسلم عمر فقال «كاد يصيبنا في خلافك بلاء».
فأمّا الأسرى ، فهو جمع أسير ، وقد ذكرناه في سورة البقرة (١). والجمهور قرءوا «أن يكون له» بالياء ، لأنّ الأسرى مذكّر. وقرأ أبو عمرو «أن تكون» ، قال أبو عليّ : أنّث على لفظ الأسرى ، لأنّ الأسرى وإن كان المراد به التّذكير والرّجال فهو مؤنّث اللفظ. والأكثرون قرءوا «أسرى» وكذلك «لمن في أيديكم من الأسرى». وقرأ أبو جعفر ، والمفضّل «أسارى» في الموضعين ، ووافقهما أبو عمرو ، وأبان في الثاني. قال الزّجّاج : والإثخان في كلّ شيء : قوّة الشيء وشدّته. يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتدّت قوّته عليه. والمعنى : حتى يبالغ في قتل أعدائه. ويجوز أن يكون المعنى : حتى يتمكّن في الأرض. قال المفسّرون : معنى الآية : ما كان لنبيّ أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء أو المنّ قبل الإثخان في الأرض. وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول الله ، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) وهو المال. وكان أصحاب رسول الله قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف. وفي قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) قولان : أحدهما : يريد لكم الجنّة ، قاله ابن عباس. والثاني : يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة ، ذكره الماوردي.
فصل : وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد في آخرين : أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٢) ، وليس للنّسخ وجه ، لأنّ غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلّة ؛ فلمّا كثروا واشتدّ سلطانهم ، نزلت الآية الأخرى ، ويبيّن هذا قوله تعالى : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨))
قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) في معناه خمسة أقوال (٣) : أحدها : لو لا أنّ الله كتب في أمّ
____________________________________
(٦٥٩) حسن. أخرجه الحاكم في «المستدرك» ٢ / ٣٢٩ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي بقوله : صحيح على شرط مسلم ، وهو كما قال : لكن إبراهيم بن مهاجر أحد رجال الإسناد ، وإن روى له مسلم ، فقد لينه غير واحد بسبب سوء حفظه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٦ عن ابن عمر : استشار رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأسارى أبا بكر فقال : قومك وعشيرتك خل سبيلهم. واستشار عمر فقال : اقتلهم : ففاداهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله (ما كانَ ...) إلى قوله تعالى (فَكُلُوا ...) قال فلقي النبي لي الله عليه وسلم عمر فقال «كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء». وله شاهد من حديث ابن مسعود. أخرجه أحمد ١ / ٣٨٣ والحاكم ٣ / ٢١ وأبو يعلى ٥١٨٨. والواحدي ٤٨٧ ، ورجاله ثقات لكن فيه إرسال بين أبي عبيدة وأبيه ابن مسعود. وانظر «تفسير القرطبي» ٣٢٧١ بتخريجنا.
__________________
(١) سورة البقرة : ٨٥.
(٢) سورة محمد : ٤.
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢٩١. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، ما قد بيناه قبل وذلك أن قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) خبر عام غير محصور على معنى دون معنى ، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت ، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الآية وذلك. ما عملوا من عمل بجهالة ، أو إحلال الغنيمة والمغفرة لأهل بدر ، وكل ذلك مما كتب لهم وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يخص من ذلك معنى دون معنى وقد عم الله الخبر بطل ذلك بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.