تقولوا ، ومثله : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (١). وفي قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) قولان : أحدهما : أنّه إشارة إلى الميثاق والإقرار. والثاني : أنّه إشارة إلى معرفة أنه الخالق. قال المفسّرون : وهذه الآية تذكير من الله تعالى بما أخذ على جميع المكلّفين من الميثاق ، واحتجاج عليهم لئلّا يقول الكفّار : إنّا كنّا عن هذا الميثاق غافلين لم نذكره ، ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك على لسان النبيّ صلىاللهعليهوسلم الصّادق. وإذا ثبت هذا بقول الصّادق ، قام في النّفوس مقام الذّكر ، فالاحتجاج به قائم.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣))
قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاتّبعنا منهاجهم على جهل منّا بآلهيتك (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) في دعواهم أنّ معك إلها ، فقطع الله احتجاجهم بمثل هذا ، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كلّ واحد منهم. وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه استنطق الذّرّ ، وركّب فيهم عقولا وأفهاما عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم أنّ معنى أخذ الذّرّية : إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفا ، ومعنى إشهادهم على أنفسهم : اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين. ولمّا عرفوا ذلك ودعاهم كلّ ما يرون ويشاهدون إلى التّصديق ، كانوا بمنزلة الشّاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحّته ، كما قال : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) (٢) يريدهم بمنزلة الشّاهدين ، وإن لم يقولوا : نحن كفرة ، كما يقول الرجل : قد شهدت جوارحي بصدقك ، أي : قد عرفته. ومن هذا الباب قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ) (٣) أي : بيّن وأعلم وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري ، والأول أصحّ ، لموافقة الآثار.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : وكما بيّنا في أخذ الميثاق الآيات ، ليتدبّرها العباد فيعملوا بموجبها (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : ولكي يرجعوا عمّا هم عليه من الكفر إلى التّوحيد.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥))
قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) قال الزّجّاج : هذا نسق على ما قبله ، والمعنى : أتل عليهم إذ أخذ ربّك ، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) وفيه ستة أقوال (٤) :
(٥٩١) أحدها : أنه رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن أبر ، قاله ابن مسعود. وقال ابن
____________________________________
(٥٩١) ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين. فقد أخرجه الطبري ١٥٣٩٢ ـ ١٥٣٩٦ و ١٥٣٩٩ من طرق عن ابن مسعود وأخرجه برقم ١٥٣٩٨ و ١٥٤٠١ عن ابن عباس. وأخرجه برقم ١٥٤٠٣ و ١٥٤٠٤ عن مجاهد.
وأخرجه ١٥٤٠٨ عن عكرمة ، وله شواهد. وهذا القول هو أرجح الأقوال.
__________________
(١) سورة لقمان : ١٠.
(٢) سورة التوبة : ١٧.
(٣) سورة آل عمران : ١٩.
(٤) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ١٢٢ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه أن يتلو على قومه خبر رجل كان آتاه حججه وأدلته ، وهي «الآيات» ، وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك «بلعم» وجائز أن يكون «أمية» اه.