الحجّة عليهم. والخامسة : الإعلام بأنّ الله عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الأعمال في كتاب ، واستنسخها من غير جواز النّسيان عليه.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) فيه قولان : أحدهما : مكّناكم إيّاها. والثاني : سهّلنا عليكم التّصرّف فيها. وفي المعايش قولان : أحدهما : ما تعيشون به من المطاعم والمشارب. والثاني : ما تتوصّلون به إلى المعايش ، من زراعة ، وعمل ، وكسب. وأكثر القرّاء على ترك الهمز في «معايش» وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال الزّجّاج : وجميع النّحويين البصريين يزعمون أنّ همزها خطأ ، لأنّ الهمز إنما يكون في الياء الزائدة ، نحو صحيفة وصحائف ؛ فصحيفة من الصّحف ؛ والياء زائدة ، فأما معايش ، فمن العيش ؛ فالياء أصلية.
قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : شكركم قليل. وقال ابن عباس : يريد أنكم غير شاكرين.
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) فيه ثمانية أقوال (١) : أحدها : ولقد خلقناكم في ظهر
__________________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : تأويله (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) ولقد خلقنا آدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) بتصويرنا آدم. كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجل بالأفعال تضيفها إليه. والمعنيّ في ذلك سلفه ، وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة : ٦٣] وما أشبه ذلك من الخطاب الموجه إلى الحي الموجود ، والمراد به السلف المعدوم ، فكذلك ذلك في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ). معناه ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صورناه. وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الذي يتلو ذلك قوله (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم ، قبل أن يصور ذريته في بطون أمهاتهم بل قبل أن يخلق أمهاتهم. و «ثم» في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها ، وذلك كقول القائل : «قمت ثم قعدت» لا يكون «القعود» إذا عطف به ب «ثم» على قوله «قمت» إلا بعد القيام. وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو ، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها وذلك كقول القائل : «قمت وقعدت» ، فجائز أن يكون القعود في هذا الكلام قد كان قبل «القيام» لأن «الواو» تدخل في الكلام إذا كانت عطفا توجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها ، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين. أو إن كانا في وقتين ، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إن قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.
وقد وجه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب كذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم ، وزعم أن معنى ذلك : ولقد خلقناكم ، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، ثم صورناكم ، وذلك غير جائز في كلام العرب ، لأنها لا تدخل «ثم» في الكلام وهي مراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر ، وإن كانوا قد يقدمونها في الكلام ، إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير وذلك كقولهم : «قام عبد الله ثم عمرو». فأما إذا قيل : «قام عبد الله ثم قعد عمرو» فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله إذا كان الخبر صادقا ، فقوله تبارك.