الزّجّاج : المعنى : وكم من أهل قرية ، فحذف الأهل ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. وقوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا) محمول على لفظ القرية ؛ والمعنى : فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقّعين له ؛ إمّا ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون. قال ابن قتيبة : بأسنا : عذابنا ، وبياتا : ليلا. وقائلون : من القائلة نصف النهار. فإن قيل : إنما أتاها البأس قبل الإهلاك ، فكيف يقدّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ الهلاك والبأس يقعان معا ، كما تقول : أعطيتني فأحسنت ؛ وليس الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله ، وإنما وقعا معا ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ الكون مضمر في الآية ، تقديره : أهلكناها ، وكان بأسنا قد جاءها ، فأضمر الكون ، كما أضمر في قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) (١) ، أي : ما كانت الشّياطين تتلوه ، وقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ) (٢) ، أي : إن يكن سرق. والثالث : أنّ في الآية تقديما وتأخيرا ، تقديره : وكم من قرية جاءها بأسنا بياتا ، أو هم قائلون فأهلكناها ، كقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) (٣) أي : رافعك ومتوفّيك ، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) قال الفرّاء : فيه واو مضمرة ؛ والمعنى : فجاءها بأسنا بياتا ، أو وهم قائلون ، فاستثقلوا نسقا على نسق.
(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))
قوله تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) قال اللغويّون : الدّعوى ها هنا بمعنى الدّعاء والقول. والمعنى : ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلّا الاعتراف بالظّلم. قال ابن الأنباري : وللدّعوى في الكلام موضعان : أحدهما : الادّعاء. والثاني : القول والدّعاء. قال الشاعر :
إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي |
|
بدعواك من مذل بها فيهون (٤) |
(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))
قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) يعني : الأمم يسألون : هل بلّغكم الرّسل ؛ وما ذا أجبتم؟ ويسأل الرّسل : هل بلّغتم ، وما ذا أجبتم؟. (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي : فلنخبرنّهم بما عملوا بعلم منّا (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن الرّسل والأمم. وقال ابن عباس : يوضع الكتاب ، فيتكلّم بما كانوا يعملون.
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))
قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) أي : العدل. وإنما قال : «موازينه» لأنّ «من» في معنى جميع ، يدلّ عليه قوله : (فَأُولئِكَ). وفي معنى (يَظْلِمُونَ) قولان : أحدهما : يجحدون. والثاني : يكافرون. قال الفرّاء : والمراد بموازينه : وزنه. والعرب تقول : هل لك في درهم بميزان درهمك ، ووزن درهمك ، ويقولون : داري بميزان دارك ، ووزن دارك ؛ ويريدون : حذاء دارك. قال الشاعر :
__________________
(١) سورة البقرة : ١٠٢.
(٢) سورة يوسف : ٧٧.
(٣) سورة آل عمران : ٥٥.
(٤) البيت لكثير عزة ، ديوانه ٢ / ٢٤٥. «اللسان» : مذل. ومذلت رجله مذلا بفتح وسكون وأمذلت : خدرت.