آمالا ، وأعدّ عديدا ، وأكثف جنودا ، تعبدوا للدنيا أي تعبد ، وآثروها أي إيثار ، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ، ولا ظهر قاطع ، فهل بلّغكم أن الدنيا سنحت لهم نفسا بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو حسنت لهم صحبة ، بل أرهقتهم بالقوادح ، وأوهنتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفّرتهم للمناخر ، ووطئتهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريب المنون ـ
فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد ، وهل زودتهم إلا السّغب ، أو أحلّتهم إلّا الضنك ، وأو نوّرت لهم إلّا الظلمة ، أو أعقبتهم إلّا الندامة ـ
أفهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنون ، أم عليها تحرصون ، فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها ـ
فاعلموا وأنتم تعلمون بأنكم تاركوها وظاعنون عنها ، واتعظوا فيها بالذين قالوا «من أشد منا قوة»؟ حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران ، فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، ولا يبالون مندبة ، إن جيدوا لم يفرحوا ، وان قحطوا لم يقنطوا ، جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون ، وقريبون لا يتقاربون ، حلماء قد ذهبت أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ، لا يخشى فجعهم ، ولا يرجى دفعهم ، استبدلوا بظهر الأرض بطنا ، وبالسعة ضيقا ، وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(الخطبة ١١٠).
(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٥).
(دارِ السَّلامِ) هي الأولى السلام في الأولى ، ومن ثم الأخرى في الأخرى ، حيث الإسلام السليم يبني من الحياة الدنيا دار السلام.