شفقات وجلهم ، ولم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم ، ولم يفرقهم سواء التقاطع ، ولا تولّاهم على التحاسد ، ولا تشعّبتهم مصارف الريب ، ولا اقتسمتهم أخياف الهمم ، فهم أسراء إيمان لم يفكهم من ربقته زيغ ولا عدول ، ولا ونى ولا فتور ، وليس في أطباق السماء موضع إهاب إلّا وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد ، يزدادون على طول الطاعة بربهم علما ، وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظما» (من خطبة الأشباح ٩٠).
هنا ـ وبعد ما اكتملت الحجج البالغة عليهم من كافة النواحي الناحية منحى إثبات الحق وإزهاق الباطل ، ولم يجدوا عنها مفلتا حيث قطعت عنهم كل أعذارهم الغادرة ، ويئسوا من مناهضة حجته بحجة ، فتورطوا في لجة غامرة محجوجين ، عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم ، فتركوا الحجة إلى التحدي :
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢).
(.. فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) فوق الواجب ، فصدعتنا دونما طائل واصب ، وما نحن لك بمؤمنين مهما جادلتنا ، و (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (٢٦ : ١١٦) (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٥٤ : ٩) ثم وآخر ما قالوه : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من عذاب ربك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في رسالتك.
(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٣٣).
«إنما» ليس إلّا (يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) متى شاء وكما شاء ، ولست أنا الذي آتيكم به من عند نفسي ولا من عند ربي ، و «إن أنا إلا رسول» فالمشية هي مشيته دون سواه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله حين يشاء أن يأتيكم بعذاب من عنده أم لا يأتيكم به ، (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله في حجة رسالته ، ولا «بمعجزين» إياي عن مواصلة الدعوة بالحجج البينة ، ثم :