فأجرى فيها ماء متلاطما تياره ـ فهذا الماء المجرى كان قبل إجراءه كائنا كأول ما خلق! ـ متراكما زخّاره ، حمله على متن الريح العاصفة ، والزعزع القاصفة ، فأمرها برده ، وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حده ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق ، ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها ، وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخار ، وإثارة موج البحار ، فمخضته مخص السّقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، ترد أوله إلى آخره ، وساجيه إلى مائره ، حتى عبّ عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق ، وجوّ منفهق ، فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا ، وعلياهن سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينظمها ، ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر ... (١).
«وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا ، ثم فطر منه أطباقا ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بأمره ، وقامت على حده» (الخطبة ٢٠٩).
فقد «كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله عز ذكره الماء فاضطرم نارا فأمر الله النار فجمدت فارتفع من جمودها دخان فخلق الله عزّ وجلّ السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الماء ..» (٢).
ذلك ، وكما بدأ خلقه من الماء حيث (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فقد
__________________
(١) من الخطبة الأولى في نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).
(٢) البرهان ٢ : ٢٠٧ عن الكافي بسند متصل عن محمد بن مسلم قال قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : .. وفي نور الثقلين ٢ : ٣٣٨ عن الكافي عن سدير الصيرفي سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (بَدِيعُ السَّماواتِ) فقال (عليه السلام) : إن الله عزّ وجلّ ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ..