والمعنى : أن الله هو الذي يتولّى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم. وهذا المقال اقتضاه قوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرّع ، فلذلك لما قال : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أتبعه بقوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فرصته. وهذا كقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «فإذا قالوها (أي لا إله إلا الله) عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ، أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله.
وزاد نوح قوله بيانا بقوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وبيّن هذا المعنى قوله في الآية الأخرى (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) في سورة هود [٣١].
والقصر في قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) قصر موصوف على الصفة ، والموصوف هو (حِسابُهُمْ) والصفة هي (عَلى رَبِّي) ، لأن المجرور الخبر في قوة الوصف ، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخبارا تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقر كما بيّنه علماء النحو. والتقدير : حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول (عَلى رَبِّي). وكذلك قدّره السكاكي في «المفتاح» ، وهو قصر إفراد إضافي ، أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه عليّ. وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه.
وقوله : (لَوْ تَشْعُرُونَ) تجهيل لهم ورغم لغرورهم وإعجابهم الباطل. وجواب (لَوْ) محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير : لو تشعرون لشعرتم بأن حسابهم على الله لا عليّ فلما سألتمونيه. ودل على أنه جهّلهم قوله في سورة هود [٢٩] (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(١). هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض.
والمفسرون نحوا منحى تأويل (الْأَرْذَلُونَ) أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية ، أي الطعن في صدق إيمان من آمن به ، وجعلوا قوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) تبرّءوا من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم. ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) ، فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر.
__________________
(١) في المطبوعة : (ولكنكم قوم تجهلون) وهو خطأ ، والمثبت هو الصواب والله أعلم.