يلبثون بعدك.
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف (خِلافَكَ) وهو لغة في خلف. وتقدم عند قوله تعالى : (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ٨١].
واللبث : الاستقرار في المكان ، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون. وقد خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك مهاجرا وكانوا السبب في خروجه فكأنهم أخرجوه ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) في سورة البقرة [١٩١] ، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلا ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد ، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك.
وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه ، أي المتسببين في خروجه ، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلا.
والسنّة : العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها. وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [آل عمران : ١٣٦] ، أي عادة الله في كل رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده ، خرج هود من ديار عاد إلى مكة ، وخرج صالح من ديار ثمود ، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم ، فإضافة (سُنَّةَ) إلى (مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) لأدنى ملابسة ، أي سنتنا فيهم بدليل قوله : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقيّة.
وانتصب (سُنَّةَ) من (مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) على المفعولية المطلقة. فإن كانت (سُنَّةَ) اسم مصدر فهو بدل من فعله. والتقدير : سننّا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا ، أي لأجلهم. فلما عدل عن الفعل إلى المصدر أضيف المصدر إلى المتعلق بالفعل إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع ؛ وإن كانت (سُنَّةَ) اسما جامدا فانتصابه على الحال لتأويله بمعنى اشتقاقي.
وجملة (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلا. وإنما سنّ الله هذه السنّة لرسله لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حكمة الله تعالى لأن تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب.