بينهما ، وكتبت الصحيفة السوداء في مقاطعة النبي وأهل بيته ، وألجأت بني هاشم الى شعب أبي طالب ، لا يكلمهم أحد ، ولا يصهر إليهم أحد ، ولا معاملة من بيع أو شراء ، ويشارك عليّ محمدا في هذه المحنة بجميع أبعادها وأقسى ظروفها وشتى مآسيها ، فهما كبني هاشم لا يأكلان إلا الجشب ، ولا يلبسان إلا الخشن ، ولا يتصلان بأحد إلا لماما ، ولا يصل إليهم أحد إلا لماما أيضا ، وتؤثر المقاطعة أثرها ، ويبلغ الحصار شدّته ، ولا سبيل إلا الصبر ، ويموت كافل محمد ومراسله الى قريش أبو طالب ، فيشتّد عليه الطلب ، وتشتد عليه قريش أيضا قسوة وكرها ومقاومة ، وعليّ الى جنبه يتجرع مرارة الغيظ.
عليّ في مكة ـ والحالة هذه ـ ينظر ظواغيت قريش وجبابرة الارض يكيلون للنبي حقدا لا ينتهي ، ويوجهون من الأذى ما لا يحتمل ، في كل شيء : في نفسه وأسرته وصحابته حتى يقول : « ما أودذي نبيّ مثلما أوذيت » يوضع الشوك في طريقه ، وترسل الحجارة عليه من خلفه ، ويصبّ الفرث والدم والسلا على ظهره ، وهو في الكعبة يسجد لله ، يستمع إلى قوارص القول ، ويصكّ بنوابي الكلم ، ويقذف بالداهية العظمى ، وعليّ يبصر هذا ويألم له أشد الألم ، وقد يدافع أصدق الدفاع.
ولم يكن هذا وحده يؤرق عليا ، فهناك ما يضاهيه أو يزيد عليه، فقد كان ينظر الى هؤلاء المستضعفين في مكة : ياسرا وسمية أبوي عمار ، يصبّ عليهم العذاب صبا ، حتى يموتوا تحت العذاب شهداء ، ويمثل بهم أقسى تمثيل لم يشهد له العرب مثيلا من قبل ، ويشاهد عمارا إبنهما ، وقد عذب عذابا شديدا حتى كادت تزهق نفسه ، ويضطره هؤلاء إلى كلمة الكفر ، فيقولها بلسانه ، وقلبه عامر بالإيمان ، وينزل القرآن