قلت : آذيت الشيخ. قال : ثم أقبل علي فقال : أنا لا أعرف الناس ، قد كان رجل بمكة يحمل إليّ الطعام ثلاث سنين وأنا لا أعرف اسمه ، ولكن أجدني قد أنست إليك ، فاعلم أن طريق السالكين أحكم من طريق أهل الروايات ؛ هذا الأسود الذي كان بالشام ـ يعني أبا الخير الأقطع ـ خرج إليه إبراهيم بن المولد (١) من العراق ، فوصل إليه عند المساء ، فنزل ، وتطهر ، وصلّى معه صلاة العتمة ، فازدرى به لقراءته ، ففطن أبو الخير لذلك ، فلما جن عليه الليل أخذ إبراهيم ركوته ، وذهب يجدد [وضوءا](٢) ، فبينا هو على ذلك إذ جاء سبع ، فوقف عليه ، فترك إبراهيم ركوته وعدا إلى المسجد ، فأدركه أبو الخير ، فقال : ما لك؟ قال : سبع! فخرج أبو الخير ، وأخذ بأذن السبع. وقال : يا أبا الحارث ، ألم أقل لك لا تؤذ الناس! وأخذ ركوة إبراهيم وردّها إليه.
قال أبو القاسم بكر بن محمّد :
ورد على أبي الخير رجل فقيه من العراق ، فلمّا وجبت صلاة العشاء خرج إلى المسجد وضيفه معه ، فتقدم الشيخ ، فصلّى بهم ، وكان في لسانه عجمة الحبش ، فلما فرغ من الصلاة قام الفقيه فأعاد صلاته التي صلّاها خلفه ، فلما كان من غد قدم الشيخ ضيفه فقال : تقدم ، صلّ بنا الصبح ، فإنك تحقّق القراءة أكثر منّي ، فتقدّم الرجل ، وصلّى بالشيخ ولجماعة ، ثم خرج الرجل بين الآجام (٣) ، فإذا به يصرخ ، فخرج الشيخ فدخل الأجمة ، فإذا بالرجل ملقى على ظهره ، والسبع على صدره ، فتقدم الشيخ إلى السبع ، فأخذ أذنه وقال : ويحك تخيف ضيفي!؟ ونحاه عن صدره ، فأقام الرجل مغشيا عليه ساعة ، وحمل إلى المسجد ، فلما أفاق قال له الشيخ : يا هذا ، لو حقّقت يقينك كما حققت قراءتك لكنت أحد رجال الله ، ففطن الرجل وقال : أيها الشيخ التوبة ، فقال : يا هذا ، لا يعرج إلى السماء إلّا كما نزل منها محقّقا ، ولي اجتهادي (٤) ، فصوب يقينك كما صوبت قراءتك ، ارفع سوء الظن عن عباد الله. فقال : سمعا لك وطاعة.
قال أبو ذرّ الهروي : سألت عيسى بن أبي الخير :
كيف كان حديث السبع معك؟ قال : كان أبي يخرج خارج الحصن ، وعنده آجام
__________________
(١) هو إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو الحسن الزاهد الصوفي ، انظر أخباره في حلية الأولياء ١٠ / ٣٦٤.
(٢) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.
(٣) الآجام واحدتها أجمة بالتحريك ، الشجر الكثير الملتف (القاموس).
(٤) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي مختصر ابن منظور : اجتهادك.