وأما النصب على القطع ، فقد ردّ هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب ، ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من المضاف ، وذكر حنيفا ولم يؤنث لتأنيث ملة ، لأنه حمل على المعنى ، لأن الملة هي الدين ، فكأنه قيل : نتبع دين إبراهيم حنيفا. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال : قيل إن حنيفا حال من إبراهيم ، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالا من الملة ، وإن خالفها بالتذكير ، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) (١)؟ فإذا جعلت حنيفا حالا من الملة ، فالناصب له هو الناصب للملة ، وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه ، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالا لازمة ، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية ، وكذلك يلزم من جعل حنيفا حالا من إبراهيم أن يكون حالا لازمة ، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية. والحنيف : هو المائل عن الأديان كلها ، قاله ابن عباس ؛ أو المائل عما عليه العامّة ، قاله الزجاج ، أو المستقيم ، قاله ابن قتيبة ؛ أو الحاج ، قاله ابن عباس أيضا ؛ وابن الحنفية ، أو المتبع ، قاله مجاهد ؛ أو المخلص ، قاله السدّي ؛ أو المخالف للكل ، قاله ابن بحر ؛ أو المسلم ، قاله الضحاك ، قال : فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج ، أو المختتن. أو الحنف : هو الاختتان ، وإقامة المناسك ، وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، عشرة أقوال متقاربة في المعنى. وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء ، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق ، مستقيمي الطريقة حنفاء ، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة ، لما سنه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، مما يقتدى به إلى قيام الساعة. وصارت الحنيفية علما مميزا بين المؤمن والكافر. وسمي بالحنيف : من اتبعه واستقام على هديه ، وسمي المنكث عن ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : يهودي ونصراني ومجوسي ، وغير ذلك من ضروب النحل.
(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثنا ، ولا شمسا ، ولا قمرا ، ولا كوكبا ، ولا شيئا غير الله تعالى. وكان في قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى ، ولذلك أضرب ببل عنهما ، فثبت أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا. وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ، ثم كانت تشرك ، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين. وقيل : في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦١.